ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 24 سبتمبر 2015

فسوافا شمبورسكا .. خسائر لا غنى عنها

خسائر لا غنى عنها


ولدت فيسوافا شمبورسكا في مورنيك بغربي بولندا في الثاني من يوليو عام 1923. عاشت حياتها كلها في كراكاو منذ عام 1931. في الفترة من عام 1945 إلى عام 1948 درست الأدب البولندي وعلم الاجتماع في جامعة جاجيلونيان. كانت بداية شمبورسكا مع الشعر في مارس من عام 1945 بقصيدة عنوانها "أبحث عن كلمة" نشرتها في جريدة دجينيك بولسكي اليومية.
في الفترة بين عامي 1953 و1981 عملت شمبورسكا محررة شعرية وكاتبة مقال في أسبوعية أدبية تصدر في كراكاو باسم زايسي ليتراكي، وبحسب السيرة الذاتية المنشورة لشمبورسكا على موقع جائزة نوبل الإلكتروني فقد صدرت مقالاتها في تلك المجلة الأسبوعية في كتاب صدرت منه أربع طبعات.
حصلت شمبورسكا على جائزة جوته عام 1991 وجائزة هِردر عام 1995، ودكتوراه فخرية في الآداب من جامعة بوتسنان عام 1995، وجائزة الفرع البولندي من نادي القلم عام 1995، وجائزة نوبل في الأدب عام 1996.
القصيدة التي نقدمها لها فيما يلي منشورة في مارس من عام 2007 في مجلة أطلنطيك وقد ترجمت من البولندية إلى الإنجليزية بقلم جوانا ترزيشياك.
***

تمثال إغريقي

بمساعدةٍ من البشر وكوارث أخرى
أحسن الزمان صنعه فيه.
في أول الأمر مضى بأنفه
ثم بأعضائه التناسلية
وواحدا تلو واحد مضى
بأصابع يديه وقدميه
وبمرور السنين
 ذراعيه ذراعا تلو ذراع
ثم فخذه اليمنى فاليسرى
ثم ظهره ووركيه، فرأسه فردفيه
وما كان يسقط كان الزمان يحيله قِطَعًا
فكِسَرًا،
ففتاتا،
فرملا.
عندما يموت هذه الميتة شخصٌ حيّ
يراق دم كثير مع كل ضربة.
أما التماثيل الرخامية فتهلك دون دم
ولا تهلك دائما دفعة واحدة.
مِن هذا الذي نتكلم عنه
لم يبق سوى الجذع
كأنه نَفَسٌ محبوس
فلا بد أنه الآن
يسحب بداخله
كل ما كان من جمال وثقل
لكل ما فقده.
ويسحب هذا بداخله
ويسحب لا يزال
ويسحبنا ويأتلق
ويأتلق ويبقى
ولا بد هنا من إشارة احترام
إلى الزمن
الزمن الذي توقف في منتصف المهمة
مرجئا البقية
إلى ما بعد.
***
يعرف دارسو الفن أن بيكاسو خطط ذات يوم لتدمير اللوفر، أو لسرقته بهدف تدميره.
ينبغي أن نؤكد أن بيكاسو الذي نتكلم عنه هو بيكاسو، الذي لا نحتاج إلى التعريف به، الرسام الذي غيَّر مسار الرسم في العالم كله مرة وإلى الأبد. وأن نؤكد أيضا أن اللوفر الذي نتكلم عنه هو اللوفر، أهم متحف للفن في العالم، هو ببساطة ذلك المتحف الذي لا تمثل الموناليزا إلا لوحة من لوحاته.
وإذن لا بد من تفسير. لقد كان بيكاسو يريد من تدميره اللوفر أن يفتح الطريق أمام الفن الجديد الذي رأى أن المتاحف هي أكبر سدٍّ يعوق ظهوره، وأكبر خطر يهدد وجوده نفسه. والحقيقة أننا لو تجرَّدنا من خوفنا على هذا التراث الإنساني العظيم، لرأينا أن بيكاسو لم يكن ينطلق من نزق وحسب. إننا إلى اليوم في عالمنا العربي نرى من يقدسون الماضي، فلا شعر إلا الذي كتبه الأقدمون وما عداه هرطقة، ولا قول في الدين بعد ما قال به موتانا قبل قرون. بل إن هناك من يقدسون ما هو أحدث من ذلك بكثير، فلا زعيم إلا الذي رحل، ولا سينما إلا سينما الأبيض والأسود، ولا مسلسلات إلا التي كانت حبيسة الاستوديوهات إذا خرجت إلى الشوارع للحظة تحول ليلها نهارا، أو نهارها ليلا.

نحن محظوظون بالكوارث والزمن وبأنفسنا (وما نحن إلا كارثة من الكوارث في رأي شمبورسكا)، لأن هذا الثلاثي القاهر الذي لا يوقفه شيء لا يكف عن تخليصنا من ماضينا. نحن بشكل ما - واقبلوا هذا النزق ولو بصفة مؤقتة - محظوظون بأن الطالبان هدموا تماثيل بوذا. طبعا هي خسارة لا تعوَّض، مثلما لا يمكن ليوم مرَّ أن يعوض، ولكن ما لنا نريد الماضي كأنما ليعفينا من الإضافة إلى الحاضر؟ ما لنا لا ننحت تماثيل جديدة، نضع فيها كل خيالنا، وكل همنا، وكل تصورنا عن الجمال، ما لنا لا نضع أرواحنا كاملة في تماثيل؟ ما لنا لا نريد أن نورث أبنائنا فرصة أن يقطّعوا أوصالنا ونحن موتى خاصة وأننا ننكر هذه الفرصة عليهم ونحن أحياء؟

الخميس، 17 سبتمبر 2015

فابيان كاساس .. موسيقى في آخر العالم

موسيقى في آخر العالم



فابيان كاساس،  صحفي وكاتب قصة قصيرة ومقال وروائي، يعيش في بيونس أيرس. صدرت قصائده الكاملة في عام 2010، وفي عام 2007 حصل على جائزة آنا سيجرز Anna Seghers  في الشعر من ألمانيا. ذلك كل ما يرد لـ فابيان كاساس من سيرة في موقع مجلة "ترجمة الشعر الحديث" تقدمةً لقصيدته موسيقى المترجمة إلى الإنجليزية بقلم أدريانا سكوبينو.
***
موسيقى
في الثمانين
تروح جدتي في النوم
على الأغنيات القديمة
من مذياعها الصغير.
في غرفتها المعتمة
حيث يصبح الأثيري
شيئا لا غنى عنه.
لا أستبعد هذه الأشياء
لا أستبعدها
أن تحدث لي أنا.
في نهاية الحياة
لا يبقى من موسيقى
إلا التي خارج أنفسنا.
***
كان ملك طاعن السن قد قرر أن يقسِّم مملكته على بناته الثلاث، ليستريح من أعباء الحكم، ويقضي أيامه الأخيرة ضيفا كريما على قصور الحكم الثلاث لملكات مملكته الثلاث. نتكلم عن الملك لير، رمز الحماقة البشرية الخالد بقوة شعر وليم شكسبير.
لماذا جعله شكسبير شيخا طاعنا في السن؟ لماذا شذَّ عن عرف بشري، باتت له قوة النواميس الكونية، يقضي أن الحكمة ملعب الشيوخ الذي لا يدخله غيرهم إلا طلبا للحكمة يمنحونها له مصفَّاة منقَّاة مصاغة في عبارات جزلة رنانة؟ لماذا جعل شكسبير الأحمق شيخا، جعله يبكي في العراء بؤسه وشقاءه بعدما تنكَّرت له ابنتاه اللتان قسم بينهما مملكته فمضى يهيم في البرية وعلى رأسه تاج من الشوك؟ ولعلنا نتذكر أن صغرى بناته حرمت من نصيبها من مملكة أبيها لسبب يؤكد حماقة الأب.
كان الأب الملك قد قرر تقسيم مملكته بين بناته بقدر حب كل واحدة منهن له، قالت الكبرى إنها حبها له مثل زبد البحر، والوسطى قالت إن حبها له كعدد البشر، أما الصغرى فقالت إنها تحبه مثلما يحب شخص أباه. فغضب الملك من هذا القدر الزهيد من الحب وحرم ابنته الصغرى من نصيبها في مملكته.
الملك لير واحدة من مآسي شكسبير الكبرى، بل إن هناك من يعتبرها درة إنتاجه الدرامي كله. ولكنه بعض قليل بطبيعة الحال مقارنة مع جمهور هاملت الذي لا يضاهى.
ولكن المسرحية نفسها لا تعنينا، إلا بقدر ما يعنينا هذا السؤال: هل ثمة أي غرابة في تصرف الملك لير؟ هل ينبغي أن يزداد الإنسان بمرور العقود حكمة واتزانا وتغليبا للعقل على الهوى؟ أم أن علينا أن نفكر في طريقة أخرى نحترم بها كبارنا، كأن نحترم ماضيهم، وما قدموه لنا فيه، وكفى؟
الحقيقة أن بنات الملك الثلاث كن أكثر حكمة منه، أو أكثر قدرة على التفكير من أبيهن الشيخ. فالكبيرة والوسطى فهمتا أنهما أمام شخص اختل عقله، فمنحتاه ببساطة ما يريد. والصغرى، تصورت ـ ربما ـ أن ثمة اختبارا وأن طريقتها في إجابة السؤال هي الطريقة المثلى. (ولو أن شكسبير يحرص على تقديم هذه الابنة الصغرى، كوردليا، بوصفها البراءة التامة). الثلاث تصرفن بما يناسب أشخاصا تقودهم عقولهم لا أهواؤهم، ولعل الحكمة ليست شيئا آخر.
لماذا نفترض أن شخصا يفقد قوته، وقدرته على العمل، وقوة بصره، وقوة ذاكرته، لماذا نفترض أنه مع كل هذه الخسائر يزداد حكمة؟ ألا تخبرنا الطبيعة في كل لحظة أن النهايات لا تستثني من أحدٍ شيئا، ولا تنال من بعض الأشياء على حساب بعضها؟ هل يحدث أن نرى حصانا يهرم كل ما فيه إلا ذيله يبقى منتصبا شامخا مثيرا للإعجاب؟ هل نرى شجرة يموت جذعها وتبقى غصونها حية، أو تموت غصونها، ولكنها تبقى قادرة على منحنا ثمارها؟
لماذا نتصور أن يحتفظ الإنسان بعصارته كاملة إلى النهاية؟ شكسبير يعلمنا في الملك لير أن المرء قد لا يصل إلى نهاية العمر حاملا كل عقله معه؟ وفابيان كاسياس يعلمنا أن الموسيقى التي تعزفها قلوبنا بداخلنا لن تكون هي الموسيقى التصويرية في مشهد النهاية. ستنضب. الخيال الجامح سيهدأ، ويهدأ، حتى يصير ذكرى، والذكرى هي أول طريق النسيان، والعدم.
فابيانن كاساس، الشاعر القاص الروائي الصحفي، يعرف أنه في النهاية لن يجد بداخله إلا بئرا جافة لا صحافة فيها ولا رواية ولا قصة ولا شعر ولا موسيقى. وعندئذ يصبح الأثير، الذي لا يد للمرء عليه، أو إليه، أمرا لا غنى عنه.
أو
ما أطول الرحلة التي يستغرقها الإنسان على الأرض إلى أن يحتوي بداخله على صمت يعزله عن أي ضجيج، حتى لينام قرير العين، بينما الراديو يلح عليه أن ينتبه. ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم.

الخميس، 10 سبتمبر 2015

كينيث ريكسوث ... تلك الرائحة

تلك الرائحة


ولد الشاعر الأمريكي كينيث ريكسوث في عام 1905، في ساوث بيند بولاية إنديانا الأمريكية، وتنقَّل مع أسرته في مناطق عديدة من وسط أمريكا في طفولته. عاش حياة صاخبة، فعرف اليتم في سن الرابعة عشرة، وظلَّ على مدار حياته كثير التنقل والسفر داخل الولايات المتحدة وخارجها، وكان له نشاط سياسي، وتزوج أربع مرات. تعلم إلى حد كبير تعليما ذاتيا، وهو واحد من أكثر الشعراء الأمريكيين توزيعا وقراءة في القرن العشرين. كان أحد المؤثرين على جيل البيت الشهير بشعرائه ألن جينسبرج ولورنس فرلينجِتِي حيث تظهر في شعرهما ثيمات من شعره لا سيما ما يتعلق بالصوفية والجرأة الجنسية. في القصيدة التي نقدمها له في السطور التالية نرى جانبه السياسي واضحا، فهو يكتب هجائية للعنصرية ساخرةً ومريرةً، ويبدو واضحا أنه كتبها في شبابه، وهو بعد في العشرينيات من العمر. توفي كينيث ريكسوث في عام 1982.
***
تفرقة
لا يشغل الناس بالي.
بعدما اعتدتهم تماما
طوال خمسة وعشرين عاما
لا يشغل بالي
إن هم جلسوا جنبي
في القطارات
أو أكلوا في نفس المطعم
ما لم يكن على نفس المنضدة.
ومع ذلك
لا أقبل لامرأة أحترمها
أن ترقص مع واحد منهم.
لقد حاولت أن أدعوهم إلى البيت
ولم أنجح.
ولا ينبغي أن أبالي بأختي
إذ تتزوج منهم أحدا
أو تقع في حبه
لكن فكروا في الأطفال.
ينتجون فنا مثيرا،
لكنه يقينا همجي.
وأنا واثق أنه لو سنحت لهم الفرصة
لقتلونا في أسرَّتنا.
ولا بد أن تعترفوا
أن لهم رائحة.
***
قصيدة عنصرية بامتياز. وتعلن عن عنصريتها هذه منذ عنوانها الأول، ومنذ أول كلمة فيها وحتى آخر كلمة. حتى أنها مكتوبة على لسان من يجد للبشر رائحة. ربما لا يقول إنها منفرة، ولكنه يستطيع تمييزها، يستطيع أن يسمهم برائحة كما توسم الأشياء، وكأنه ليس منهم، أعني ليس منا.
وعلى عنصريتها هذه، تبقى أيضا صالحة للاستخدام أينما وضعت. قابلة لأن تقرأها أوربا وهي تقصد أفريقيا، أو أفريقيا وهي تقصد أمريكا، أو أمريكا وهي تقصد الجنوبية منها  أو الشمالية، قصيدة الحمر للصفر أو الصفر للبيض، أو البيض للسود.
كما أن بوسع أتباع كل دين أن يقرأوها وهم يقصدون من ليسوا على دينهم، بل وبوسع أبناء كل مذهب، بل وأبناء كل عرق، بل وبوسع أخ أن يقرأها وهو يقصد أخاه. ولن يكون هذا التعالي من أخ على أخيه غير مسبوق في سلالة كائنات تحب أن تسمي نفسها بني آدم، وما هي إلا بنو قابيل.
ولقد كان كينيث ريكسوث كمن يمشي على الحبل في كتابته هذه القصيدة. كان بوسعه أن يزل في لحظة فتبدو القصيدة عنصرية تجاه عرق معين من البشر، أو فئة منهم يجمعها دين أو لون أو سن أو رأي سياسي أو ما شئتم مما يجتمع عليه الناس، أو يتصورون أنهم يجتمعون عليه، في حين أنه في جوهره يفرق بينهم وبين أمثالهم من الناس.
ولكنها بالقطع قصيدة مناهضة للعنصرية، رافضة لها. وهي أيضا، وببساطة شديدة، فاضحة لبعض ما تقوم عليه العنصرية من أفكار، أو لبعض ما يحركها من دوافع. وذلك لسبب واحد: أنها لا تسمِّي الهدف.
من المؤكد أننا سنصاب بالرعب إن نحن رأينا في غير السينما قَنَّاصا يقبع على سطح عمارة شاهقة مصوِّبا سلاحه. من المؤكد أن الرعب سوف يتملكنا ونحن لا ندري على أي صدر بالضبط يستقر صليب منظار السلاح. وحتى هذا القَنَّاص نفسه سوف ينتابه الرعب لو أنه في مكاننا. لو أنه يرى قناصا آخر يستعد لإنجاز مهمة؟
فلماذا؟ لماذا وهو والقناص من طينة واحدة، يصيبه الرعب من فعل هو نفسه يقوم به؟ لماذا نتصور أن الشخص العنصري حين يقرأ هذه القصيدة فإنها سوف تثير ضيقه؟ صحيح أنه عنصري، وأنه يقول مثل هذا الكلام عن بعض البشر، ولكننا نفترض أن قد يريد أن يطمئن إلى أن هذا الكلام غير موجَّه إليه هو. يريد أن يعرف أنه مستثنى من هذا الحكم الجائر بأن له رائحة تنبعث منه، وأنه أدنى من أن يكون زوجا لأخت شخص ما، لا لعيب عابر فيه يمكن إصلاحه، بل لأن هذه هي تركيبته التي وجد عليها نفسه.

لقد اعتلى كينيث ريكسوث عمارة عالية، أوقفنا جميعا تحتها، وصوب بندقيته تجاهنا، وقال لنا ببساطة شديدة كلكم في مرمى هذه الطلقة، فماذا أنتم فاعلون بي؟