ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 13 فبراير 2014

سوترا ـ توماس سلمون

هيا بنا نلعب

السوترا Sūtra  حرفيا هي الخيط الذي تنتظم من خلاله أشياء مختلفة، يمكن مثلا أن نتخيل خيط المسبحة أو العقد، وقد انتظمت فيه الحبات أو اللآلئ، أو حتى ثمرات البامية اليابسة ومفاتيح البيت والسيارة وزينة رمضان... والسوترا في الأدب مجموعة من المقولات القصيرة الكثيفة. والكلمة في الهندوسية تشير إلى نوع مميز من التأليف الأدبي يقوم على العبارات الحكمية الوجيزة، ويرمي إلى تقديم نصوص يسهل حفظها على طلبة بعض المدارس الدينية.
غير أن هذه النشأة ذات الغرض الديني لم تمنع هذا القالب الكتابي أن يكون مطية لظهور كتاب من أشهر كتب الحب في العالم وهو المعروف بالكاماسوترا.
سوترا هنا عنوان قصيدة، ليست لشاعر هندي كما لعلكم تتوقعون، ولكنه سلوفيني.
***


توماس سلمون Tomaž Šalamun  وحش. ذلك ما يقوله هو عن نفسه في قصيدة عنوانها "تاريخ" نشرت ترجمتها في الجارديان البريطانية قبل عشر سنوات، في عام 2004.
"توماس سلمون نطاقٌ يجتاح الهواء
يستلقي في السَحَر، يعوم في السحر
أنا والناس ننظر إليه
ولا نفهم أي شيء".
توماس سلمون شاعر من سلوفينيا، نشر أكثر من خمسة وثلاثين كتابا شعريا، منها عشرة مترجمة إلى الإنجليزية. فاز بجائزة بريزرين Preseren  وحصل على منحة من مؤسسة فولبرايت في جامعة كولمبيا الأمريكية المرموقة، وزمالة البرنامج الدولي للكتابة من جامعة أيوا. عمل أيضا مستشارا ثقافيا في القنصلية السلوفية في نيويورك. ترجم شعره إلى أكثر من عشرين لغة ليس بينها العربية فيما نعرف.
إليكم قصيدته: سوترا، التي ترجمها الشاعر إلى الإنجليزية بالاشتراك مع مايكل توماس تارِن.
***
سوترا
ما البحر؟ البحر الجبهة.
ما الجبهة؟ الجبهة الليل.
ما الرمل؟ الرمل الفجر.
ما الفجر؟ الفجر الملِك.
الملك الرجل الملقَّب.
الرجل الملقب يحمل العبء.

ما الكيس؟ الكيس القمامة.
ما القمامة؟ القمامة الساقية؟
ما اللون؟ اللون الغاز.
ما الغاز؟ الغاز الطفل.
الطفل يعانق الإنجيل.
الطفل يحطمه.

ما الحمْل؟ الحمل بهجة.
ما البهجة؟ البهجة باخ.
ما الحكمة؟ الحكمة الصمت.
الحكمة الرقم أربعة.
الرقم أربعة مصلوبا
الرقم أربعة محاصرا.
***
فلنقر ابتداء بأن كثيرا من العلاقات في هذه القصيدة خفي علينا. وبأننا لا نعتقد أن الطريق السليم إلى التعامل مع هذه القصيدة هو من خلال استكشاف العلاقات بين المفردات فيها. فما العلاقة بين البحر والجبهة حتى يكون البحرُ الجبهةَ؟ وما العلاقة بين الجبهة والليل حتى يجرؤ أحد أن يعتبر الجبهةَ الليل؟ هل نجرب مثلا أن نضع في محرك جوجل البحثي كلمتي البحر والجبهة ونرى أية سياقات جمعت بين الكلمتين؟ لا أعتقد أن من الصواب أن نتنازل عن خلفيتنا المعرفية لصالح سياقات محتملة هي في النهاية لا تخصنا نحن كقراء للقصيدة.
***
برغم أن هذه القصيدة تتقرب إلى التراث الحكمي الهندوسي المشرقي، إلا أنها أوروبية رغم أنفها، بل إنها  ليست أوربية شرقية شأن كاتبها، ولكن أوربية غربية. فالوشيجة بينها وبين فرنسا والسريالية، أقرب كثيرا من الوشيجة بينها وبين الشرق، شرق أوربا، ناهيكم عن الشرق الهندي، ناهيكم عن الحكمة.
لقد كان من أيادي السريالية البيضاء على الأدب، والدادية من قبلها، أن قدمت بضع ألعاب كتابية لا يزال الشعراء من مختلف أرجاء الأرض يستعينون بها بين الحين والآخر. وهذه الألعاب لا تكاد تكون مورست في عالمنا العربي. من هذه الألعاب لعبة الأسئلة الناقصة.
وفيها يطرح شاعر على شاعر سؤالا، ولكنه يحذف منه كلمة، فيكون السؤال المطروح على هذا النحو مثلا: ماذا تكون الـ ... ؟ فيجيب الشاعر الثاني بأي إجابة يشاء، ولتكن مثلا: "سكينة في يد مخمور". والآن، ماذا لو أن الكلمة الناقصة في السؤال هي "السعادة"؟ لو أن الأمر كذلك تكون الصدفة قد قدمت لنا عبارة مما يقضي قراء الشعر والشعراء أنفسهم أعمارهم باحثين عنها: السعادة سكِّينة في يد مخمور.
***
لعبد القادر الجنابي، ومجلته الراحلة "فراديس" فضل تقديم مثل هذه الألعاب إلى الثقافة العربية. وقد لعب الجنابي لعبة الأسئلة الناقصة هذه مع شعراء كبار من أمثال أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف، وانظروا مثلا نتيجة اللعبة مع درويش. الجنابي سأل درويش: من هو أدونيس، ومن هو سعدي يوسف، ومن هو عباس بيضون، وما هي فلسطين، دون أن يكشف في أسئلته جميعا عن أي من هؤلاء الأعلام، وكانت النتيجة أن "أدونيس معنى يبحث عن عبارة"، وأن "سعدي يوسف يوثّق ما يغيب عن الشعر"، وأن "عباس بيضون يعرف ما الشعر ولا يبلغ القصيدة"، وأن "فلسطين  طاولة من زجاج".
***
أجمل ما في هذه الألعاب أن تبقى ألعابا، بمعنى أن لا يُفرض عليها غرض نفعي، من قبيل الخروج بقصيدة قابلة للنشر. بقاء اللعبة لعبة هو الذي يكفل لها البقاء طازجة مدهشة، هو الذي يحميها من الطرافة المصطنعة التي قد تكون عيب قصيدة توماس سلمون الأكبر.