ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 19 مارس 2015

توماس لَكْس...في المسألة الإنسانية

في المسألة الإنسانية

يحكى أن رجلا حمل أمه القعيدة مسافرا بها من حيث يعيشان، إلى مكة لكي تؤدي فريضة الحج، وهنالك ظل يحملها على كتفيه وهي تؤدي المناسك يوما بعد يوم، ثم تساءل إن كان بهذا قد برّ بأمه وأوفاها حقها عليه، فقيل له إنه ما بر بها ولا أوفاها حقها. فقد كان يحملها منتظر لها الموت، في حين أنها بدأت بحمله جنينا ثم طفلا، ولكنها كانت ترجو له الحياة وطول العمر. لا يعني ذلك أن بر الولد بأبويه مستحيل، وأن من غير الممكن لولد أن يعوض لوالديه ويكافئهما في شيخوختهما على شبابهما الذي ضيعاه. ولكن ما يجعل الحياة كلها صعبة بحق، هو تحويل العلاقات الإنسانية إلى "شراكات" يقدم كل طرف فيها نصيبا من رأس المال، وينتظر ما يوازيه من نصيب في الأرباح.
فلو أن الأم كانت تحمل ولدها جنينا وطفلا كنوع من الاستثمار، لكان حمله لها في هرمها جزاء عدلا، أو ربحا مستحقا. ولكنها لم تكن تفعل ذلك لتحقيق هذا الغرض.
وأيضا مما يجعل الحياة تزداد صعوبة، اختزال الأشخاص في بعض أدوارهم. فالعقوق، تلك الكلمة المذمومة التي لا تكاد تستخدم إلا في وصف الأبناء، هي مجرد نتاج لاختزال البشر بعضهم البعض. فلنفرض على سبيل المثال أن شابا أبى أن يلتحق بالجامعة، وقرر أن يبدأ حياته العملية، متجاهلا رغبة والديه. هذا بموجب التعريف "ابن عاق"، ولكنه "عاق" من وجهة نظر والديه وحسب، فهو من وجهة نظر بعض أصحابه "متهور"، ومن وجهة نظر البعض الآخر "حاسم" يعرف ما يريد وما لا يريد، ومن وجهة نظر نفسه هو - وهي مهمة أيضا – مدفوع إلى ما يفعل بقوة يراها قاهرة.
ماذا لو أن أبوي ذلك الشاب تعاملا معه باعتباره إنسانا، ولم يختزلاه في صفته كابن لهما؟ ربما كانا في هذه الحالة سينظران إليه في إعجاب، ويثمّنان قدرته على اتخاذ قراراته بنفسه ويدعوانه من ثم إلى تحمل مسئولياته في الحياة. تعالوا نفترض أنهما فعلا ذلك، أنهما اعتبراه إنسانا مستقلا وأنهما عاملاه كما يليق بإنسان مستقل. ولنفترض أنه فشل في حياته العملية وبعد سنوات اكتشف أن الفتاة التي قرر أن يعمل لكي يدخر ما يكفي للزواج بها ترفضه زوجا لأنه لم يعد مكافئا لها خاصة بعد أن عادت من الخارج وقد حصلت مثلا على ماجستير في التدبير المنزلي. أغلب الظن أن هذا الشاب سيلوم والديه، فقد كان من حقه كـ "ابن" لهما أن ينصحاه، بل أن يجبراه كـ "أبوين" على سلوك الطريق الصواب في الحياة. ولكن لماذا يفترض الشاب أن أبويه كانا يعرفان الصواب وضنا عليه بهذه المعرفة؟ لأنهما أب وأم. لأن الأب والأم بالضرورة يعرفان الصواب. هذا اختزال ثان لشخصين في دوريهما كأبوين. لو أن الشاب يتعامل مع والديه باعتبارهما إنسانين زميلين له في الإنسانية، فسيعترف لهما بنسبية معرفتهما. ومن ثم فلن يلومهما على عدم قهره.
بوسعكم أنتم أن تتلمسوا مشكلة اختزال البشر في أدوارهم أينما تنظرون حولكم، فلن تجدوا امرأة من حقها أن تسأم، ولكنكم ستجدون زوجة عليها أن تتحلى بالصبر  لأربع وعشرين ساعة في اليوم، ولو نظرتن فلن تجدن رجلا من حقه أن يخلو قليلا إلى نفسه أو أصحابه، فما هو غير زوج عليه أن يكون مُسلِّيا طوال الوقت، كأنه قناة إضافية في التليفزيون. ولو نظرنا جميعا لما رأينا إنسانا يضحك، بل لرأينا رئيسا في العمل يكشف عن أنيابه...
***
ولد الشاعر الأمريكي توماس لَكْس في عام 1946. أصدر أكثر من اثني عشر ديوانا نال عنها عددا من الجوائز والمنح. وهو أيضا مترجم وأستاذ للكتابة الإبداعية تنقل للتدريس بين عدد من الكليات الأمريكية. وهذه قصيدة له:
***
سِنَّة صغيرة
تنمو لابنتنا سِنّة، ثم ثانية
فرابعة فخامسة
فإذا بها تريد قطعة لحم من العظم مباشرة.

انتهى الأمر:
ستتعلم بعض الكلمات،
ستقع في غرام الأبله والأحمق
ومعسول الكلام وهو في طريقه الى السجن.

بينما أنت
وزوجتك تشيخان
تبليان
غير نادمين على شيء.
فقد عملتما، وأحببتما، وتقيّحت أقدامكما.
وها هو الغروب.
وابنتكما طويلة.
***
هذه القصيدة دليل آخر على التقدمة الطويلة التي بدأت بها، فبدلا من أن ينظر الأب إلى معجزة الخلق، وبدلا من أن ينظر بحب إلى ابنته وهي تشق بأسنانها طريقها في الحياة، إذا به يرى مأساته الخاصة. ولكن هذه القصيدة ليست دليلا على تنميط الأب لنفسه بوصفه أبا، وإنما هي دليل عكسي على حقيقة نغفل كلنا عنها، وهي أن الأب لا يعتبر نفسه أبا طوال الوقت، هو ينظر إلى نفسه أحيانا باعتباره رجلا عاديا، ولكنه في اللحظة التي ينظر فيها إلى نفسه بهذه الطريقة، لا يستطيع أن ينظر إلى طفلته الصغيرة نفس النظرة، فهو لا يغفل عن تنميطها كابنة له، ولا يستطيع إلا أن يعتبر نمو سنتها الأولى، نوعا مبكرا وقسريا من العقوق: إنها تنمو، إنها تدخل تغييرا جذريا على اللعبة التي يستمتع بها الأب والأم، إنها تنتقل من دور الدبدوب الحي، وهذا في ما يبدو، ما لا يستطيع كثير من البشر أن يغفروه للبقية منهم.




الخميس، 12 مارس 2015

وانج واي...في كل خطوة وطن

في كل خطوة وطن  




ولد الشاعر الصيني "وانج واي" عام 701 وتوفي عام 761، ويشير الشاعر الأمريكي "سام هامِل" في كتبه "شعر الزِنْ" إلى أنه ـ أي وانج واي ـ ربما يكون أول شاعر بوذي عظيم يحقق شهرة عريضة في اللغة الصينية. تعرض وانج واي للسجن في المعبد البوذي في عاصمة بلاده تشانجْآن 
Chang'an خلال أحداث إحدى الثورات، غير أنه لقي تكريما كبيرا بعد ذلك، حتى صار أحد رجال البلاط وذاعت شهرته كشاعر، ورسام للمناظر الطبيعية، وموسيقي. وتعد قصائده المسماة بـ "قصائد نهر وانج" من روائع عصره الشعرية. وقد توفي الشاعر وهو يعمل فيما يناظر وزارة الخارجية لبلده في ذلك الوقت.
من كتاب الشاعر "سام هاميل"، "شعر الزن" الذي ترجمه إلى الإنجليزية بالاشتراك مع الشاعر "جيه بي سيتن"، إليكم هذه القصيدة
***
في سنوات منتصف عمري
وقعت في غرام الطريق
أقمت لي بيتا على سفح جبل الجنوب
فحين تحركني الروحُ
أخلو لنفسي
لأبصر ما لزم عليَّ وحدي أن أبصره
أسير إلى حيث ينبع النهر
وثمة أجلس
أشاهد لحظة يرتفع الغيم
أو لعلي أقابل ثمة حطابا
ولعلنا نتكلم
ونتضاحك
فننسى الرجوع إلى أرض الوطن.
***
ترى هل سنوات منتصف العمر هذه قريبة مما نعرفه بعمر النبوة تقريبا؟ والبيت؟ أهو الذي يقام حيث تقام البيوت، أم الموجود في انتظار من يراه، أعني غارا على سبيل المثال في جبل بعيدا عن القرية؟
                                                                  ***
يتذكر المرء لاو تسو، الحكيم الصيني القديم الذي رأى أيضا في أواسط عمره أو أواخره أن عليه الخروج من مدينته إلى الطريق، وفيما كان عند أسوار المدينة استوقفه جندي وأبى أن يسمح له بالعبور إلا إذا ترك للمدينة حكمته، فجلس لاو تسو يدوِّن حكمته، وهكذا، بفضل تعنت ذلك الجندي، بقي للبشرية كتاب الطاو، ثاني أكثر الكتب توزيعا في العالم بعد الإنجيل، حسبما يقال.
كأن الخروج من الوطن إلى الطريق طقس صيني انتقل أيضا إلى شعراء اليابان القدامى الجوَّالين. كأنما أهل شرق آسيا آمنوا فعلا أن للسفر فوائد، ولكنهم لم يكتفوا بقول ذلك في مثل سائر، بل راحوا ينفذون الحكمة فعلا.
هذا التعريض بالتراث العربي الذي ينص على أن للأسفار سبع فوائد لن يجعلنا نغفل عن ملاحظة دلالة الرقم. فالعرب أيضا جعلوا فوائد الأسفار سبعا، وهو رقم أقرب إلى المقدس في التراث الإنساني كله.
في هذه القصيدة أيضا ينبئنا الشاعر وانج واي أنه وقع في غرام الطريق، فأقام له بيتا عند سفح الجبل، ولكنه لم يركن إلى سكنى هذا البيت النائي المعزول على الأرجح، بل إنه ترك الجبل والبيت ومضى يتبع مجرى النهر إلى المنبع. أهو إذن باحث عن أصل الأشياء؟ الحق أننا لا نجد من الوقت ما يكفي لتأمل سؤال سريع كهذا، فسرعان ما يخبرنا الشاعر أنه جالس عند منبع النهر، يشاهد لحظة ترتفع الغيوم، كأنما لم يكن يكفي لرؤية الغيم لحظة ارتفاعه أن يفتح شباك بيته؟
***
يبدو أن المعرفة في ظن الصينيين القدامى لم تكن قط رديفا للاستقرار. يبدو أن المرء بحاجة أولا إلى فقدان الإحساس بالأمان. يبدو أن المرء إذا لم يستطع أن يحطم جدران بيته ويهدم سقفه، فعليه أن يترك هذا البيت ويمضي إلى العراء. يبدو على أقل تقدير أن سقف البيت لا بد أن يكون مليئا بالشقوق، لكي يتسنى للمرء أن يرى نور القمر كما في قصيدة لـ "إيزيمو شيكيبو" اليابانية، ويبدو أنه حتم على الشاعر أن يترك حماية الوطن الموهومة، ليخرج إلى الغابات فتخفيه أشجارها مثلما تخفي مقابر العشاق كما في قصيدة للشاعرة اليابنية "أونو نو كوماتشي":
وما عاد لي خروج
إلا إذا أقبل الليل
في نور القمر.
متحاشيةً جميع العيون
وحرسَ القصر
أختبئ فيخفيني الشجر
مثلما يخفي مقابر العشاق.
أيها الخريف
أنت جبل.
 ***


يبدو أن العرب حينما حددوا فوائد السفر بسبع فوائد، كانوا يريدون لفت أنظارنا إلى أن ثمة شيئا ما يشترك فيه السفر، مجرد السفر، مع السماوات والأرض.