ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الثلاثاء، 7 أبريل 2020

زواج هنا ... إعصار هناك


                                                                   زواج هنا ... إعصار هناك

لورنس راب (1946 - ) شاعر أمريكي وأستاذ جامعي ، ولد في بيتسفيلد بولاية مساتشوستس. صدر له عدد من الدواوين آخرها "الحياة المجاورة لهذه الحياة" (2017)، وله فضلا عن الشعر أعمال مسرحية، والقصيدة التالية مأخوذة من كتابه "ما لا يعرفه أحدنا عن الآخر" (1993)



Lawrence Raab 

زواج


بعد سنين يجدان نفسيهما
يتكلمان عن الصُدف،
عن اللحظات التي كان يمكن فيها
أن تسلك حياتهما مسارا آخر
لأبسط الأسباب.
يقول:
               ماذا لو كنت
لم أتصل ذلك الصباح؟
ماذا لو أنكِ كنتِ بالخارج
مثلما كنتِ حينما حاولتُ ثلاث مرات
في الليلة السابقة؟
حينئذ تكشف له سرا.
كانت موجودة طوال ذلك المساء
وكانت تعرف أنه المتصل
ولذلك لم ترد.
               لأنها شعرت
بل لأنها أيقنت
أن حياتها سوف تتغير لو رفعت السماعة
وقالت: آلو
وقالت: كنت أفكر فيك حالا.
تقول له: خفت.
وفي الصباح
كنت أعرف أيضا أنك المتصل
ولكني رفعت السماعة
ورددت
مثلما يرد أي شخص على رنين الهاتف
غير متصور أن لديه خيارا آخر.
***
قبل قرابة خمسين سنة، وقف عالم رياضيات أمريكي يدعى إدوارد نورتن لورنز (1917-2008) أمام حشد من العلماء في المؤتمر التاسع والثلاثين بعد المئة للاتحاد الأمريكي لدعم العلم وطرح سؤالا: هل رفيف جناحي فراشة في البرازيل يطلق إعصارا في تكساس؟ كان سؤاله ذلك بداية ما عرف بنظرية "أثر الفراشة".
لا أعرف، ولا يعنيني، كيف تغير العالم أو العلم بهذه النظرية. لا يعنيني أثر أثر الفراشة على أطروحات نيوتن قبلها، وعلوم المناخ والتنبؤات الرياضية ونظرية الفوضى بعدها. لكن يعنيني، وينبغي أن يعنيك، أن العالم لن يكون هو العالم حين أضع نقطة الآن منهيا هذه الجملة. شيء ما حدث. شيء أكبر من مجرد وضع نقطة بعد بضعة حروف. شيء لعله إعصار في تكساس، أو ابتسامة في باب اللوق. شيء ما ولكننا لا نعرفه.
تقول المقالات التي تتناول أثر الفراشة في المجلات والمواقع العلمية إن الثقافة العامة تبنت نظرية لورنز وانحرفت بها عن مقاصده الأولى. ولكن كيف كان للثقافة أن تقاوم هذا الإغراء؟ لقرون منذ ثبت للبشر عدم مركزية الأرض في الكون، تدهور احترام الإنسان لذاته، هان على نفسه، ولم يعد في نظر الكثيرين ذلك الكائن الذي انطوى فيه العالم الأكبر. كيف كان للثقافة أن تترك العلم ينفرد بهذه النظرية وهي الكفيلة برد الاعتبار لا للإنسان وحده، بل لكل كائن على وجه الأرض، لكل حبة رمل ولكل جبل، لكل كلمة حب ولكل إعلان حرب؟ كيف كان للثقافة أن تهمل فرصة تثبت فيها للإنسانية أن لكل شيء قيمة وقدرا وحسابا؟
***
 بعد سنين يجلسان، ويتكلمان عن الصدف. لا تعيننا القصيدة فنعرف أي الاثنين بدأ الكلام. لا نجد فيها إلماحا إلى سبب هذه الجلسة: أهو الامتنان لتلك الصدف القديمة؟ أم الندم على ما أعقبها من سنين جمعتهما؟ لا تعنى القصيدة بشيء من هذا. لا تعنى بهذين الإنسانين بالذات، والحقيقة أنها بهذا القرار، قرارها بأن تتجاهل روحي هذين الاثنين، اتسع اهتمامها لتشمل كل الأرواح، لتشملني أنا، وتشملك أنت.
أفكر الآن في هذه الجلسة باعتبارها رفيف جناحي فراشة آخر، باعتبارها اتصالا هاتفيا آخر، باعتبارها مفترق طرق لن تصبح الحياة بعده كما كانت قبله. أفكر فيها وأتساءل: ماذا سيكون من شأن هذا الزوج وهذه الزوجة بعد تلك الجلسة؟ وأفكر: هل سيخطر لهما بعد هذه الجلسة أن الأمر ليس رجلا وامرأة وحسب، وأن وجودهما معا، هذا الشيء الكريه أو الجميل، هذا الشيء المتكرر بلا نهاية، هذا الشيء البسيط للغاية، هو شيء لا يخصهما وحدهما، وقرار لم يتخذاه بمعزل عن سواهما، إنما لهما فيه شريك، ولا أعني الهاتف، ولا الرد على الهاتف، ولا عدم الرد على الهاتف، لا أعني الصدف التي اقتنصت ولا الصدف التي أهدرت، إنما أعني الكون كله: شريك كل اثنين في سريرهما.
***
لم أفهم قط أولئك الذين يبتسمون على الشاشات كاشفين أسنانا عضت كل شيء إلا أصابع الندم، فيقولون: لا. ويهزون رؤوسهم في حسم ويكررون: لا. ثم يرفع أحدهم إصبعا في وجه محدثه ويعلنها: لو عاد بي الزمن لفعلت كل شيء مثلما فعلته في المرة الأولى! لم أفهمهم ولم أدر سبيلا يصل عبره إنسان إلى هذا الرضا المطلق عن حياته إلا انعدام الخيال.
ليس الأمر أن كل خطوة خطوناها منحتنا في طريق بقدر ما حرمتنا في طريق آخر. ليس الأمر دعوة إلى الندم، ولكنها دهشة ممن لا يوسعون حياتهم بالخيال، ممن لا ينظرون إلى كل خطوة خطوها متسائلين ما الذي كان ينتظرهم لم لم يخطوها، أو لو خطوها في وجهة أخرى.
وأتذكر روبرت فروست (1874-1963) وقصيدته الشهيرة "الطريق المتروك"، يبدأها قائلا:
طريقان انشعبا في غابة صفراء
ومن أسف لم أكن لأسلك الاثنين
أنا المسافر الواحد
وينهيها قائلا:
في مكان ما على بعد عصور وعصور
انشعب طريقان في غابة وأنا ...
أنا سلكت أخواهما من المسافرين
فكان في ذلك الفارق
كل الفارق.
أتخيل ذلك الرجل في الخريف. أتخيله على صهوة حصان. أتخيله في اللحظة التي تمهل فيها قبل أن يسلك أحد الطريقين، ناظرا إلى الطريق الآخر، متأملا كل ما أمكنه أن يراه منه حتى انعطافه مخفيا عنه ما لن يعرفه أبدا. أتخيله، وأعرف أننا وإن لم نركب ذلك الحصان قط، لم نركب غيره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق