ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 14 أغسطس 2014

في جحيم الخيال هناك مدفأة ـ مارينا تِسْفِيتَاييفَا

في جحيم الخيال هناك مدفأة

Marina Tsvetaeva


هي واحدة من أهم الشاعرات الروسيات في القرن العشرين، مارينا تِسْفِيتَاييفَا. ولدت في موسكو في عام 1892 وتوفيت منتحرة في عام 1941. بدأت كتابة الشعر في طفولتها وأصدرت أول دواوينها وهي في الثامنة عشرة من عمرها. كان والدها أستاذا لتاريخ الفن وواحدا من مؤسسي متحف الفن الحديث في حين كانت والدتها عازفة بيانو موهوبة، وكانت تلك الأسرة دائمة التنقل مما جعل مارينا تدرس في سويسرا وألمانيا ثم السوربون بباريس. تزوجت مارينا في عام 1912 وأنجبت ولدا وفتاتين ماتت إحداهما عقب الثورة البلشفية. لم تحتمل مارينا الحياة في موسكو بعد الثورة فهاجرت بأسرتها إلى برلين عام 1921 ومنها إلى براغ ثم استقرت في باريس حيث عانت كثيرا من مجتمع المهجر الروسي فانكفأت على الشعر والنثر حتى انتحارها في عام 1941.
في ما يلي  قصيدة كتبتها مارينا تسفيتاييفا في عام 1916، وهي بدون عنوان.
***
أريد أن أعيش معك
في بلدةٍ صغيرةٍ
لا نهاية فيها للسَحَر
ولا لدويِّ الأجراس.
وفي فندقٍ صغير هناك
يدق جرسٌ صغيرُ في ساعةٍ عتيقةٍ
دقاتٍ كأنها قَطْر الزمن.
وبين حينٍ وآخر
يقبل صوتُ ناي في المساء
حيث عازف جالس قرب شباكه
وزهراتُ خزامى ضخمةٌ قرب الشبابيك.
وإن نسيتَ حينئذ هواي، فلن أبالي.

في وسط الغرفة مدفأة كبيرة من الآجر
على كل آجرة منه صورة:
صورةُ قلبٍ، ومركب، ووردة.
وخارج شباكنا الوحيدِ جليدٌ جليد جليد.
وأنت مستلقٍ بالقرب مني كما أحب أن أراك:
كسولا لامباليا خالي البال.
ومرةً أو مرتين أسمع صوت ثقابك الحاد.
تتوهج سيجارتك وتخبو
ورِعشةٌ، رِعشةٌ عند طرفها الرمادي القصير
رعشة في الرماد الذي تتكاسل عن رميه.
ثم تطير السيجارة صوب نار المدفأة.
***
مثل عروس شابة مقبلة على الزواج، تتخذ لنفسها مكانا في العالم، تؤثث فيها بيتها الصغير قطعة قطعة، تصطنعه كما تشاء. هكذا تبدو مارينا تسفيتاييفا في هذه القصيدة.
إنه بيت مضيء
سأصنع فيه عالما
ليس بوسع رجل بناؤه.
هكذا كتبت شاعرة يابانية قديمة ذات يوم. ومثلها، ترسم مارينا تسفيتاييفا بنعومة بالغة زاوية لها ولحبيبها، غرفة صغيرة، في فندق صغير، في قرية لا نهاية فيها للسحر، ذلك الوقت العابر الخاطف بين ليل ونهار يطولان. وصوت ناي يعزفه شخص جالس بالقرب من شباك، وحبيب مستلق في تكاسل، يدخن، ولا يكاد يفعل شيئا غير ذلك، فيما يدق جرس الساعة العتيقة دقات كأنها قطرات الزمن.
بهذه النعومة ترسم مارينا زاوية لها ولحبيبها في هذا العالم. ترسمها فتفضح خشونة العالم الذي تعيش فيه بالفعل. تقول ببساطة شديدة إن هذا العالم يخلو من هذا الجمال البسيط، يخلو من قرية تعيش طوال الوقت في السحر، في اللحظات التي لا ينشغل فيها الناس إلا بأنفسهم، يخلو من مدافئ تحمل كل آجرة فيها رسمة جميلة، اثرا من شخص أتيح له من الوقت الكثير والوفير فجعله كله لبضع حجرات في مدفأة. يخلو من أشخاص بلا هموم ولا أفكار تقلقهم. ذلك إذن كل ما تريده مارينا. ذلك ما قد يجعلها تغفر لحبيبها أي شيء، حتى توقفه عن الغرام بها.
ولكن الشعر لم يكن في نماذجه الرفيعة قط سبيلا لتغييب الوعي، لم يكن مهربا من الواقع بما فيه من عذابات ومشكلات، إلى واقع بديل شبيه بما تحققه المخدرات والمسكرات. فعلى الرغم من نعومة العالم كما ترسمه القصيدة، وعلى الرغم من أن هذه النعومة تذكرنا بخشونة العالم الذي نعيش فيه، إلا أن الشاعرة نفسها لم ترسمه خاليا من القسوة، لم ترسمه مثاليا كامل المثالية. فحتى في ذلك العالم الذي تخلقه الشاعرة بكلماتها، نجد أن الشاعرة تستبعد امتلاك هذا العالم. نجد أنها لا تريد فيه أكثر من غرفة مؤجرة، غرفة في فندق صغير في قرية صغيرة. وكأنها لا تتوقع ديمومة لهذا الواقع الخيالي. مجرد غرفة في فندق، مؤقتة كالسحر الذي ترجو دوامه، كاستلقاء الحبيب الذي يروق لها، غرفة عابرة عبور وهج سيجارة تطير من يد حبيب نائم، إلى نار بداخل مدفأة تنتظر.

الخميس، 13 فبراير 2014

سوترا ـ توماس سلمون

هيا بنا نلعب

السوترا Sūtra  حرفيا هي الخيط الذي تنتظم من خلاله أشياء مختلفة، يمكن مثلا أن نتخيل خيط المسبحة أو العقد، وقد انتظمت فيه الحبات أو اللآلئ، أو حتى ثمرات البامية اليابسة ومفاتيح البيت والسيارة وزينة رمضان... والسوترا في الأدب مجموعة من المقولات القصيرة الكثيفة. والكلمة في الهندوسية تشير إلى نوع مميز من التأليف الأدبي يقوم على العبارات الحكمية الوجيزة، ويرمي إلى تقديم نصوص يسهل حفظها على طلبة بعض المدارس الدينية.
غير أن هذه النشأة ذات الغرض الديني لم تمنع هذا القالب الكتابي أن يكون مطية لظهور كتاب من أشهر كتب الحب في العالم وهو المعروف بالكاماسوترا.
سوترا هنا عنوان قصيدة، ليست لشاعر هندي كما لعلكم تتوقعون، ولكنه سلوفيني.
***


توماس سلمون Tomaž Šalamun  وحش. ذلك ما يقوله هو عن نفسه في قصيدة عنوانها "تاريخ" نشرت ترجمتها في الجارديان البريطانية قبل عشر سنوات، في عام 2004.
"توماس سلمون نطاقٌ يجتاح الهواء
يستلقي في السَحَر، يعوم في السحر
أنا والناس ننظر إليه
ولا نفهم أي شيء".
توماس سلمون شاعر من سلوفينيا، نشر أكثر من خمسة وثلاثين كتابا شعريا، منها عشرة مترجمة إلى الإنجليزية. فاز بجائزة بريزرين Preseren  وحصل على منحة من مؤسسة فولبرايت في جامعة كولمبيا الأمريكية المرموقة، وزمالة البرنامج الدولي للكتابة من جامعة أيوا. عمل أيضا مستشارا ثقافيا في القنصلية السلوفية في نيويورك. ترجم شعره إلى أكثر من عشرين لغة ليس بينها العربية فيما نعرف.
إليكم قصيدته: سوترا، التي ترجمها الشاعر إلى الإنجليزية بالاشتراك مع مايكل توماس تارِن.
***
سوترا
ما البحر؟ البحر الجبهة.
ما الجبهة؟ الجبهة الليل.
ما الرمل؟ الرمل الفجر.
ما الفجر؟ الفجر الملِك.
الملك الرجل الملقَّب.
الرجل الملقب يحمل العبء.

ما الكيس؟ الكيس القمامة.
ما القمامة؟ القمامة الساقية؟
ما اللون؟ اللون الغاز.
ما الغاز؟ الغاز الطفل.
الطفل يعانق الإنجيل.
الطفل يحطمه.

ما الحمْل؟ الحمل بهجة.
ما البهجة؟ البهجة باخ.
ما الحكمة؟ الحكمة الصمت.
الحكمة الرقم أربعة.
الرقم أربعة مصلوبا
الرقم أربعة محاصرا.
***
فلنقر ابتداء بأن كثيرا من العلاقات في هذه القصيدة خفي علينا. وبأننا لا نعتقد أن الطريق السليم إلى التعامل مع هذه القصيدة هو من خلال استكشاف العلاقات بين المفردات فيها. فما العلاقة بين البحر والجبهة حتى يكون البحرُ الجبهةَ؟ وما العلاقة بين الجبهة والليل حتى يجرؤ أحد أن يعتبر الجبهةَ الليل؟ هل نجرب مثلا أن نضع في محرك جوجل البحثي كلمتي البحر والجبهة ونرى أية سياقات جمعت بين الكلمتين؟ لا أعتقد أن من الصواب أن نتنازل عن خلفيتنا المعرفية لصالح سياقات محتملة هي في النهاية لا تخصنا نحن كقراء للقصيدة.
***
برغم أن هذه القصيدة تتقرب إلى التراث الحكمي الهندوسي المشرقي، إلا أنها أوروبية رغم أنفها، بل إنها  ليست أوربية شرقية شأن كاتبها، ولكن أوربية غربية. فالوشيجة بينها وبين فرنسا والسريالية، أقرب كثيرا من الوشيجة بينها وبين الشرق، شرق أوربا، ناهيكم عن الشرق الهندي، ناهيكم عن الحكمة.
لقد كان من أيادي السريالية البيضاء على الأدب، والدادية من قبلها، أن قدمت بضع ألعاب كتابية لا يزال الشعراء من مختلف أرجاء الأرض يستعينون بها بين الحين والآخر. وهذه الألعاب لا تكاد تكون مورست في عالمنا العربي. من هذه الألعاب لعبة الأسئلة الناقصة.
وفيها يطرح شاعر على شاعر سؤالا، ولكنه يحذف منه كلمة، فيكون السؤال المطروح على هذا النحو مثلا: ماذا تكون الـ ... ؟ فيجيب الشاعر الثاني بأي إجابة يشاء، ولتكن مثلا: "سكينة في يد مخمور". والآن، ماذا لو أن الكلمة الناقصة في السؤال هي "السعادة"؟ لو أن الأمر كذلك تكون الصدفة قد قدمت لنا عبارة مما يقضي قراء الشعر والشعراء أنفسهم أعمارهم باحثين عنها: السعادة سكِّينة في يد مخمور.
***
لعبد القادر الجنابي، ومجلته الراحلة "فراديس" فضل تقديم مثل هذه الألعاب إلى الثقافة العربية. وقد لعب الجنابي لعبة الأسئلة الناقصة هذه مع شعراء كبار من أمثال أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف، وانظروا مثلا نتيجة اللعبة مع درويش. الجنابي سأل درويش: من هو أدونيس، ومن هو سعدي يوسف، ومن هو عباس بيضون، وما هي فلسطين، دون أن يكشف في أسئلته جميعا عن أي من هؤلاء الأعلام، وكانت النتيجة أن "أدونيس معنى يبحث عن عبارة"، وأن "سعدي يوسف يوثّق ما يغيب عن الشعر"، وأن "عباس بيضون يعرف ما الشعر ولا يبلغ القصيدة"، وأن "فلسطين  طاولة من زجاج".
***
أجمل ما في هذه الألعاب أن تبقى ألعابا، بمعنى أن لا يُفرض عليها غرض نفعي، من قبيل الخروج بقصيدة قابلة للنشر. بقاء اللعبة لعبة هو الذي يكفل لها البقاء طازجة مدهشة، هو الذي يحميها من الطرافة المصطنعة التي قد تكون عيب قصيدة توماس سلمون الأكبر.