ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

السبت، 30 أبريل 2016

الجملة آنا أخماتوفا


الجملة
آنا أخماتوفا
وسقطت الكلمة الحجريةُ
على نهدي
الذي لا يزال حيا.
لا عليكم، كنت مستعدة لها.
وعلى نحو ما سأدبّر أمري.

عندي اليوم أشياء كثيرة:
لا بد أن أقتل الذاكرة فلا تقوم لها قائمة،
لا بد أن أحيل روحي حجرا،
لا بد أن أتعلَّم من جديد
كيف أعيش ـ

عدا هذا
وشيشُ الصيف الحماسيُّ
مهرجانٌ خارج شباكي.
طالما تنبَّأت بهذا
اليومِ البهيّ
وهذا البيت المهجور.


من كتاب أعمال آنا أخماتوفا الكاملة، في ترجمة جوديث همشماير إلى الإنجليزية، وتحرير وتقديم روبرتا ريدر

الخميس، 3 مارس 2016

دبليو إتش أودن ... الهيئة العليا للإشراف على خلود المواطنين الشرفاء

الهيئة العليا للإشراف على خلود المواطنين الشرفاء

W H Auden

في عام 1907 ولد الشاعر البريطاني دبليو إتش أودن، انتقل في طفولته إلى بريمنجهم حيث درس في الكنيسة اليسوعية بأكسفورد، وفي شبابه تأثر بشعر توماس هاردي وروبرت فروست ووليم بليك وإميلي ديكنسن إضافة إلى الشعر البريطاني القديم.

استطاع أودن بديوانيه الصادرين في عامي 1928 و1930 أن يصبح صوتا رائدا من أصوات جيله. ومنذ ذلك الحين أصبح مثار إعجاب بتنوع تقنياته الشعرية ومقدرته على الكتابة في جميع قوالب الشعر المعروفة تقريبا، إضافة إلى مقدرته على استيعاب الثقافة الشعبية وتناول الأحداث الجارية وتوظيف لغة الحياة اليومية، إلى جانب اتساع نطاقه الثقافي حيث كان يمتح بسهولة ويسر بالغين من جميع أشكال الأدب والفنون ونظريات الاجتماع والسياسة والمعلومات العلمية والتقنية.
تميز أودن علاوة على ذلك بحس كوميدي واضح، إذ كان في بعض الأحيان يحاكي على سبيل السخرية أساليب أقرانه أو حتى أساتذته من الشعراء من أمثال ديكنسن وييتس وهنري جيمس.
زار أودن ألمانيا وآيسلندة والصين، وخدم أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، وفي عام 1939، انتقل إلى الولايات المتحدة حيث أحب وتجنَّس وغيَّر آراءه تغييرا جذريا، فقد كان في شبابه الأول في إنجلترا مناصرا متشددا للاشتراكية والتحليل النفسي الفرويدي، ثم تحول في الولايات المتحدة إلى المسيحية معتنقا اللاهوت البروتستنتي الحديث.
هو كاتب غزير الإنتاج، فبالإضافة إلى الشعر، كان كاتبا مسرحيا بارزا، وكاتب مقال ومحررا. ويعتبر أودن بشكل عام أعظم الشعراء البريطانيين في القرن العشرين وأكثرهم تأثيرا في الأجيال التالية على جانبي الأطلنطي سواء بسواء.
عمل أودن مستشارا لأكاديمية الشعراء الأمريكيين أو رئيسا فخريا لها منذ عام 1954 وحتى وفاته عام 1973.
نقدم له هنا قصيدة من ديوانه "زمان آخر" الصادر في الولايات المتحدة عام 1940.
***

المواطن المجهول

(إلى جيه إس صفر سبعة ميم ثلاثة سبعة ثمانية
هذا النصب الرخامي مقام بمعرفة الولاية)
أفاد مكتب الإحصاء أنه
شخصٌ لم تقدَّم فيه شكوى رسمية
وتُجمع كلُّ تقاريره السلوكية أنه كان
بالمعنى الحديث للكلمة البالية
قديسا،
ففي كل ما قام به
كان يخدم المجتمع الأعظم.
وفيما خلا فترة الحرب
ظل حتى يوم تقاعده
يعمل في مصنع،
لم يتعرض للفصل
بل رضي عنه مديروه في مصنع سيارات فَدْج.
لم يكن عاملا مشاغبا أو غريب الأفكار،
وتفيد تقاريره النقابية بأنه كان يدفع مستحقاته
(كما تفيد تقاريرنا بصحة تقارير نقابته)
تبين لعمّالنا في علم النفس الاجتماعي
أنه كان محبوبا من أقرانه ومحبا للشراب.
والصحافةُ مقتنعة أنه كان يشتري الجريدة كل يوم
وأن ردود أفعاله على الإعلانات كانت طبيعية بكل المعاني.
تؤكد وثائق التأمين المسجلة باسمه أنه كان مؤمَّنًا تماما
وتوضح بطاقته الصحية أنه دخل المستشفى مرة لكنه خرج منها معافى.
وتشير أبحاث الإنتاج ودرجات الحياة العليا
إلى أنه كان عاقلا تماما في تعامله مع مزايا نظام التقسيط
وكان لديه كل ما يلزم الإنسان المعاصر:
فونغراف ومذياع وسيارة وثلاجة.
أما باحثونا في مجال قياس الرأي العام فعلى قناعة تامة
بأنه كان يتبنى الآراء المناسبة لأوقات السنة المختلفة
ففي السلام أيَّد السلام، وفي الحرب
ذهب إلى الحرب.
تزوج، وأضاف إلى التعداد خمسة أطفال
وهذا طبقا لعلمائنا في مجال النسل هو العدد المناسب للوالد في جيله.
وتشير تقارير معلمينا إلى أنه لم يتدخل قط في تعليمهم.
هل كان حرا؟ هل كان سعيدا؟ تلك أسئلة عبثية:
فلو كان هناك أدنى خطأ، لكنا يقينا عرفنا به.
***
هذه إذن قصيدة محفورة في رخام النصب التذكاري الذي أقيم بمعرفة الولاية. هذا إذن هو المواطن الذي رأت الولاية أن تكرمه فهل لدى أي منا اعتراض؟ هل يرى أي منا أنه مواطن غير صالح وغير جدير بالتكريم؟ لقد عمل الرجل طوال عمره، خاض حروب بلده، أحبه أصدقاؤه، وهو من جانبه أحب وتزوج وأسلم أبناءه للمدرسة تعلمهم ما تقرر أن فيه نفعا لهم. ظل طول عمره مطلعا على الأحداث الجارية عبر حرصه على ابتياع نسخة من الجريدة اليومية. كل تقارير الولاية تشير إلى أنه مواطن صالح، لم تغفل التقارير شيئا، أخبرتنا بسلوكه في العمل، بحالته الصحية، بوضعه الاجتماعي، بحكمته في التعامل مع نظام التقسيط، برضا مديريه عنه، بتبنيه الرأي المناسب في الوقت المناسب من العام. ربما أغفلت تقارير الولاية والنصب التذكاري المقام بمعرفتها أن تذكر اسم المواطن. ولكن هذه يقينا تفصيلة ثانوية، شأنها شأن إحساس ذلك المواطن المجهول بالحرية أو السعادة. لقد تضمنت التقارير الأشياء الأكثر أهمية، بالنسبة لكاتبي تلك التقارير.
ليبق إذن مجهولا كما شاءت الولاية أو الدولة، والشاعر بالمناسبة، ليبق كذلك حتى نعرف نحن عن أسمائنا شيئا: أنها بطريقة أو بأخرى حماية لنا، أنها مسوغ لكي يقول س منا إنه ليس ص، ولا يمكن وفق أي ظرف من الظروف أن يكون ص، بصمة أصابعه هي التي لـ س، ولـ س وحده، رصيده في البنك هو رصيد س، سجله الجنائي هو سجل س ... أما ص فآخر، برغم أن "كبير" الشاعر الهندي العظيم يقول ـ وأعتمد على ما في ذاكرتي من ترجمة عاشور الطويبي ـ "إنه ماء وسط الماء.. ما ذنبي أنا إذا كان شخص ما سمَّاه موجة".
ما يقوله كبير، أو ما يمكن أن نقوّله لكبير هنا، هو أن التسمية افتعال، وتعمية على حقيقة أن الإنسان واحد. لكن، مع ذلك، ليبق المواطن الصالح هذا مجهولا، ولنتأمل العلم: علم النفس الاجتماعي، وعلم الإحصاء، وعلم قياس الرأي العام. لنر العلم وهو يهز ذيله طمعا في تربيتة رضا وعطف من الدولة، لنر كيف أن مقدرة إنسانية رفيعة كالتي يجسِّدها العلم قد انحطّت إلى خدمة القهر. وتعالوا ننظر النظرة نفسها إلى شركات التأمين ووكالات الإعلان والإعلام، والمصنع والمستشفى، والبنك، وبعد ذلك كله، الهيئة العليا لشؤون شواهد القبور. تعالوا ننظر إلى الوحوش التي صنعناها بأيدينا لخدمتنا، فانتهت إلى استخدامنا. تعالوا ننظر في غضب في أي اتجاه فلا نرى غير المواطن المجهول، المجهول في الشارع، والمجهول في المرآة.

الخميس، 18 فبراير 2016

جيمس تيت ... سترة الشتاء والصيف

سترة الشتاء والصيف
james tate
ولد الشاعر الأمريكي جيمس تيت عام 1943. أصدر نحو أربعة عشر ديوانا. نال عنها الكثير من الجوائز المرموقة ومنها جائزتا بوليتزر ووليم كارلوس وليمز عام 1992، والجائزة الوطنية للكتاب عام 1994، وجائزة تانينج من أكاديمية الشعراء الأمريكيين عام 1995. توفي جيمس تيت في عام 2015.
***
فتاة صماء تلعب
هنا ذات يوم، رأيت فتاة صماء تلعب في الحقل، ولأنني لم أدر كيف أدنو إليها دون أن أفزعها، وكيف أفسر سبب وجودي، فإني اختفيت. تقززت من نفسي كمن اغتصب طفلة، أنا الرجل الراشد راقد على بطني في الحقل أشاهد فتاة صماء تلعب. تلوثت سترتي من العشب وتأخرت ساعة عن العشاء. اضطررت  أن أتخلص من سترتي لمَّا لم أجد تفسيرا منطقيا أقدمه لزوجتي. سترة بمائة دولار! ولسنا أثرياء، لسنا كذلك على الإطلاق. وهكذا، لم يبق أمامي غير سترتي الصوفية في حر الصيف تتشبع عرقا بحلول الظهر من كل يوم. صرت عارا على الشركة كلها: فليس من شيم الموظف المحترم أن يباهي بفقره. وبعد أسابيع عديدة من التوتر المعيق، استدعاني رئيسي إلى مكتبه. وبدلا من أن أذل نفسي بإطلاعه على الحقيقة قلت له إنني سألبس أي سترة حقيرة تعجبني، ولو سترة فارس معدنية إن شئت هذا. كانت أول مرة أتحدى سلطته. والأخيرة. طُردت. أُعطِيت مستحقاتي. وفي طريقي إلى البيت فكرت، سأقول لها الحقيقة، سأقولها، لم لا؟ أخبرها بالحقيقة البسيطة، وسوف تحبني. يا للقصة المؤثرة. لا أطيل عليكم، لم أقل الحقيقة. لا أعرف ماذا جرى، أظنني فقدت شجاعتي. قلت لها إنني ارتكبت غلطة كلفت الشركة عدة آلاف من الدولارات وأنهم لم يكتفوا بطردي من العمل، بل صرت بصورة ما مرغما أن أجد نقودا لأعوضهم عن الخسارة. بكت، وضربتني، واتهمتني بكل رذيلة، بداية من المكر والخبث وانتهاء بالعِنَّة. ساعدتها في حزم حقائبها وأوصلتها إلى محطة الأتوبيس. كان أوان الشرح قد فات. فما كانت لتصدقني. ما أشد برودة البيت من غيرها. ما أعمق صمته. كل طبق أوقعته كان يشبه نزع قطعة لحم عن حيوان حي. وحين تكسرت جميعا، انزويت في ركن وحاولت أن أتخيل ما الذي سأقوله لها، فتاة الحقل الصماء. ما الذي كان بوسعي أن أقوله؟ فلا صوت يمكن أن يصل إليها. وكاللص أمشي في العتمة المخملية، أعلق بالمسامير لافتاتي الصغيرة على الشجرة والسياج ولوحة الإعلانات. فتاة صماء تلعب. يا لتأثيرها. اسمعوا. في نعالهم ومعاطفهم المنزلية يترك المزيد من الرجال كل ليلة زوجاتهم النائمات: تك تك تك فتاة صماء تلعب. لا أحد يقول شيئا إلا المساميرُ ولوافتها المدهشة.
***
في فيلم "العدالة للجميع" وهو فيلم أمريكي من بطولة آل باتشينو، كان لباتشينو صديقٌ محامٍ أتى إليه في ليلة منهارا وكلمه عن مهارته كمحام، وكيف أنه استطاع في قضية شهيرة أن يبرئ قاتلا برغم أنه كان واثقا أنه مدان غير بريء. قال الصديق لباتشينو إن هذا القاتل الذي برأه قتل ضحية أخرى. اعتبر المحامي نفسه مسئولا عن مقتل هذه الضحية الثانية، وأصابه اكتئاب، فحلق شعر رأسه بالموسى. ورفض القضاة مثوله أمامهم بهذه الهيئة غير المعتادة لمحام مرموق. تم إيقافه لفترة عن العمل. وفي تلك الأثناء، يتعرض باتشينو، وهو أيضا محام، لمشكلة مماثلة تصيبه هو الآخر بالاكتئاب وتدفعه إلى القيام بسلوك عنيف في المحكمة، وهكذا نراه في نهاية الفيلم جالسا على باب المحكمة بعدما طرده القاضي من القاعة. وإذ ذاك يظهر المحامي الصديق داخلا المحكمة وقد نما شعره بغزارة. يلتفت الصديق إلى باتشينو، غير مندهش من جلوسه على ذلك النحو، ويحييه، لا برفع قبعته كما يفعل الغربيون، بل برفع شعره المستعار.
في الفيلم وفي القصيدة، يأبى المجتمع، بلا مجالٍ للمساومة، أي خروج عن المألوف. فليس لمحام في الفيلم أن يحلق شعر رأسه، وليس لرجل أن يرتدي بذلة الشتاء في فصل الصيف.
غير أن القصيدة تزيد فتعطينا ملمحا آخر. فليس الموظف المفصول هو وحده الذي شذ عن المألوف. وليس خروج المحامي على المجتمع في شيء أو لحظة ينفي أنه في شيء آخر أو لحظة أخرى يمثل هذا المجتمع ويكونه.
فهناك شخص آخر. فتاة صماء تلعب في الحقل. فتصبح مشهدا يستحق من موظف محترم أن يجثو على بطنه ويضحي بسترة وإن كان ثمنها مائة دولار، ليشاهدها. وبعد أن يخسر الوظيفة والبيت والأطباق من جراء مشاهدته، يعلن للجميع أن فتاة صماء تلعب. فكأنه بإعلانه يفضح شذوذا.

هل تريد القصيدة أن تقول لنا إن السبيل الوحيد إلى اللعب في هذا العالم، أو الاستمتاع في هذا العالم، أو الحرية فيه، هو أن نحتمي أولا بالصمم؟ وهل تريد القصيدة أن تقول لنا إننا حين نثور على قواعد هذا العالم، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلا من أجل حريتنا، وليس لأجل أن يصفق لنا أحد، لأن الشخص الوحيد الذي نريد منه هذا التصفيق، هو على الأرجح شخص أصم لن نستطيع إلى إبلاغه سبيلا؟




الخميس، 11 فبراير 2016

قنسطنطين كافافي ... بلا مبالاة

بلا مبالاة

C. P. Cavafy

ولد الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافي لأبوين يونانيين في الإسكندرية المصرية عام 1863. قضى في الإسكندرية معظم حياته، ينشر قصائده في طبعات محدودة، يوزعها على المقربين من أصحابه محتفظا لنفسه بأكثر من ثلث إنتاجه، لا سيما ما يتصل من هذا الإنتاج بموضوعات أخلاقية ـ أو غير أخلاقية إن شئتم ـ ربما كان من شأنها أن تؤلب عليه العامة في ذلك الوقت.
صدرت مجموعة قصائده الأولى في عام 1935 ـ أي بعد موته بعامين. غير أن صديقه الكاتب إي إم فورستر أرسل بعض قصائده في حياته إلى بعض كبار الشعراء الحداثيين في ذلك الوقت من أمثل دي إتش لورنس، وتي إس إليوت، والأخير نشر له قصيدته الشهيرة "إيثاكا" في جريدة كان يديرها في ذلك الوقت.
يعد كافافي واحدا من أهم الشعراء اليونانيين في القرن العشرين وواحدا من أهم الشعراء عموما في تاريخ الإنسانية.
والقصيدة التالية ترجمت إلى الإنجليزية بقلم الشاعرة المترجمة الناقدة آليكَاي بارنِسْتون
***
مرثية

ها هي العينُ غاب عنها الضياءُ
وغابت عن الوجه بسمتُه الشاحبة،
ولكنِ النهارُ لم يُمسِ مظلما بعدُ
والناس لا يزالون في الشوارع يمشون
ويضحكون في جذل.
ما أروع سُنَّة العالم في الأشياء.
باسم هذه السُنَّةِ قد أختفي عن القطيع
فلا يكترث لهذا أحد.
إنه عالم لا يحدث فيه شيء
ليس سوى الأشياء المهمة التي
هي دائما غارقةٌ في اللامبالاة.
***
للشاعرة الأمريكية نِنْ آندروز قصيدة نثرية حوارية عنوانها "نيزك". يدور فيها حوار بين امرأة وحبيبها، يقول الرجل إن نيزكا ضخما سوف يضرب الأرض في عام 2035، فتأسى المرأة لأن الحياة عندئذ سوف تنتهي، فيقول لها إن الحياة لن تنتهي، ولكن حياة البشر هي التي ستنتهي، وكذلك كوكبهم فقط. فتعترض قائلة إن الحياة لا تتحقق إلى من خلال إدراك البشر لوجود هذه الحياة، ومن ثم فعندما يفنى القادرون على الوعي بالكون، فأي وجود حينئذ يكون له؟ ويمضي بينهما الحوار إلى أن تتهمه بأنه "عميل للحكومة" مكلَّف بأن يشعرها بعدم أهميتها كإنسان. وتنتهي قصيدة آندروز بإذعان الرجل - شأن كل الرجال - لنزق المرأة وإقراره بأن الحياة ستنتهي بانتهاء البشر.
المشكلة أن الإنسان بالفعل ليس مركز الكون، والأرض ليست مركز الكون، بل إن الشمس التي ندور حولها هي نفسها ليست مركز الكون. لقد أثبت العلم هذا منذ قرون ولم يعد من مجال للمماحكة. وتغيرت الفلسفة، وأصبحت العدمية والعبثية اتجاهات كبرى في المنجز الفكري البشري. ولكن الإنسان لا يزال ينظر بحزن رومانتيكي - ربما يكون ساذجا - إلى عدم اكتراث العالم برحيل إنسان. لقد جمحت الخيول في مسرحية ماكبث عند مقتل الملك، وهبت العاصفة الأفضل بين جميع عواصف وليم شكسبير عندما أنكرت الملكَ لير ابنتاه. ولكن الضوء يشحب في عيني بطل قصيدة كافافي، وتغيب البسمة الشاحبة عن وجهه، ويبقى النهار، وتبقى الشمس ساطعة، ويبقى الناس يضحكون، برغم أهمية ما يحدث. برغم أن إنسانا يموت، برغم أن جسدا ينسحب من الحياة، برغم أن شيئا مهما يجري، ولكنه شيء يجري طوال الوقت، طوال الوقت ثمة من يموت، طوال الوقت هنالك هذا الحدث المهم الذي يغرق في اللامبالاة شأن كل الأحداث المهمة كما يقول كافافي، والأحداث غير المهمة أيضا.
وما أروع سنة العالم في الأشياء. ذلك رأي كفافي. ليس الرجل معترضا كما ينبغي لشاعر ـ في نظر الكثيرين ـ على هذا الناموس. ليس مستاء من بقاء العالم على غفلته بموت من فيه. لا يطالب الرجل بجنازة عالمية لكل فقيد. لا يريد الحياة أن تتحول إلى مندبة دائمة. لأنه، ببساطة، ليس منحازا للموت لدرجة أن يطالب الحياة بالتوقف لحظات من أجله، لا يتصور أن يدعو الحياة إلى ما يجعلها فعليا موتا قبل الموت.
ثمة ما يدعو للبهجة، حقا، في معرفة كل واحد فينا أن بوسعه الانسحاب دونما جلبة أو لفت مزعج للأنظار. أو ربما هي عزاء لا بهجة. عزاء تجده في رخصة لك بأن تغادر الحفل، مبتسما، هادئا، تترك مقعدك، تنتهز انشغال الجميع بالعرض المبهر، وتخرج من أقرب باب، غير ناظر وراءك، إلى مائدة في ذلك الحفل كنت تجلس إليها، برفقة قليلين، لا بد أن منهم من سيستوحش انسحابك، بل إن بعضهم قد يلومك عليه، لكنك سبق أن كنت هناك إذ انسحب آخرون وتعرف: عما قريب يأنس الباقون بعضهم ببعض، وينسون، وإذا بالباب الذي خرجت منه في هدوء، يكتمل انغلاقه في حسم، ثم لا صوت.

الجمعة، 5 فبراير 2016

ميروسلاف هولوب ... لئن مددت يدك إليَّ

 لئن مددت يدك إليَّ
Miroslav Holub


ولد الشاعر والعالم التشيكي ميروسلاف هولوب سنة 1923، وتوفي في 1998. اشتغل بالعلم، وكتب الشعر ـ على حد قوله ـ من باب التسلية. وفي حوار شهير معه قال إن اتحاد الكتاب التشيكيين عرض عليه مثل راتبه لكي يتفرّغ عامين لكتابة الشعر لكنه رفض لأنه يحب العلم. وقال :"وأنا على أية حال أخشى أنني لو توافر لي كل ما في العالم من وقت لكي أكتب القصائد أن لا أكتب أي شيء على الإطلاق".
والحق أن القارئ لكثير من قصائده يشعر أنها خطرت له وهو في غمار أبحاثه. أو أن إلهة الشعر عنده لم تكن فوق جبل الأولمب، بل حبيسة قنينة مغلقة في معمله.
إليكم فيما يلي قصيدة لميروسلاف هولوب، ترجمت من الألمانية إلى الإنجليزية بقلم: جيرمين دروجنبرودت.
***
يد
مددنا يدا إلى العشب ـ
فكان قمح.
مددنا يدا إلى النار ـ
فكان صاروخ.
وفي بطء،
وفي حذر،
مددنا يدا إلى البشر
إلى حفنة
من البشر.
***
علينا أن نعرف في أي عام بالضبط كتبت هذه القصيدة، في لغتها الأصلية، وأن نستعين بفريق من الباحثين المهرة فيستعرضوا لحسابنا الصفحات العلمية في الصحافة الألمانية في الفترة السابقة على كتابة القصيدة، عسانا نعرف بالضبط الأبحاث العلمية التي كانوا يجرونها آنذاك على البشر، فنعرف الوحش الذي سوف تتمخض عنه هذه الأبحاث إن لم تكن تمخضت عنه بالفعل.
وربما لا ينبغي أن نقصر بحثنا على الصحافة العلمية الألمانية، ربما نوسع الدائرة إلى المجلات العلمية أينما تكون، فقد يكون هولوب اطلع على بحث ما في مجلة تصدر في أي مكان في العالم.
ولعلنا نحتاج بجانب الباحثين المهرة إلى بعض من رجال المخابرات المتخصصين في كشف المستور، فكم من التجارب والأبحاث العلمية يجري في الظلام لا نعلم عنه شيئا ولا يصلنا من نتائجه إلا ما يحدث أن تلقيه الطائرات كلما نشبت حرب.
هذا لو أننا تعاملنا مع القصيدة باعتبارها بلاغا من مخبر سري ينقل إلينا خبر تجارب تجرى في الخفاء على البشر، وأن النتيجة ـ فيما نستشعر ـ لن تكون طيبة.
ولكنها قصيدة. بل إنها قصيدة يمكن أن نقرأها مقلوبة ونستمتع كثيرا. يمكننا فعلا النظر إلى حقول القمح إذ تتراص فيها العيدان في انتظام مقيت، لا يكاد بعضها يطول عن بعض، ولا يجرؤ أحدها أن يميل حتى مع الريح. بوسعنا أن ننظر إليها، وأن نحذف التدخل البشري من المشهد، أي نستبعد اليد التي امتدت قبل آلاف السنين لتروض العشب محيلة إياه سلعة تباع وتشترى وتخضعه خضوعنا نحن لقوانين لا علاقة له بها وتظهر صوره في النشرات الاقتصادية سهما على شاشات أسواق المال. بوسعنا أن نرى القمح هذا وقد عاد مجرد نبتة من جملة النباتات، حرة تنمو حيث تشاء، تثمر أو لا تثمر، تميل مع الريح أو تبقى قائمة في انتظار آلة لا ترحم.
نعم، هي قصيدة، وبوسعنا تماما أن نجد طريقة للاستمتاع بها. حتى لو خالفنا غايتها الواضحة، بل وإن قرأناها بعكس طريقة كتابتها.
بوسعنا طبعا أن نمد يدا إلى هذه القصيدة، فإذا بها قصيدتنا نحن لا قصيدة هولوب نفسه. وهذا ما يفعله البشر عادة، ومنذ فجر التاريخ. يغيرون على ما ليس ملكا لهم، وهذا، إن نحن أنصفنا مع أنفسنا، هو الذي أقام حضارتنا بكل ما فيها من خيرات وشرور.
نعم، يدنا امتدت إلى العشب فجعلت منه قمحا. وهذا لا يمكن أن يعد شرا. ويدنا امتدت إلى النار حتى جعلت منها صاروخا. وهذا لا يمكن أن يعد، في أغلب الحالات، إلا شرا، مهما قيل عن الدفاع عن النفس، فاللغة أيضا مطيتنا نحن البشر نسوقها حيث نشاء. ونعم، يدنا امتدت إلى البشر، فما الذي سوف ينتج؟
الحقيقة أن السؤال خطأ. الحقيقة أن انتظارنا للإجابة وهم. لقد أجيب السؤال. وأجيب مرارا. وانظروا إلى المسخ فرانكنشتاين مثلا، تجدوا إجابة. أو انظروا إلى طفل صغير، يولد لأبويه بريئا براءة ندى الفجر، ثم انظروا ما الذي يصير منه بعدما تمتد إليه يد أبويه يعلمانه ويربيانه، ويد المدرسة تلقنه وتحشوه، ويد الإعلام توجهه وتعيد برمجته، انظروا إلينا، نمد أيدينا ليل نهار إلى بعضنا البعض، جاعلين من أنفسنا بشرا أكثر وحشية، أو بشرا أكثر رقة، جاعلين من كل واحد مزيجا من كل الناس، شهادة دامغة على مجتمعه وعصره.
ولكن القصيدة تكلمنا لا عن البشر، بل عن حفنة منهم. القصيدة تحذرنا من شيء لا تصرح به، من يد تمتد إلى حفنة من البشر، هذا يعني القلة، يعني الانتقاء، يعني التعمد. وربما يكون علينا أن نتوجس من النتيجة. وربما هذا ما تريده القصيدة منا. نعم، لنا مطلق الحرية أن نترك يد الشاعر تمتد فينا فتخلق منا حفنة من المذعورين مما لا يعلمون، أو نرد عنا هذه اليد، أو نمد يدنا إليها مثلما تمد هي يدها. ونحن أولا وأخيرا وفي كل ثقافات الدنيا مدربون جيدا على التصافح.

الخميس، 28 يناير 2016

رونيلدا كامفر ...خشية أن تسهر أو تنام

خشية أن تسهر أو تنام
Ronelda S Kamfer

رونيلدا كامفر شاعرة من جنوب أفريقيا، ولدت سنة 1981، وتوصف على موقع الشعر الدولي بأنها دخلت عالم الشعر الأفريكاني دخول الصاروخ، والشعر الأفريكاني هو الشعر المكتوب باللغة الأفريكانية المنحدرة من الهولندية والتي يتكلم بها السكان في جنوب أفريقيا ونامبيا بالدرجة الأساسية. 
القصيدة التالية ترجمتها رونيلدا كامفر بنفسها إلى اللغة الإنجليزية
***

تصبحن على خير

إلى كاندي، وإيمي، وجيسي

عسى أن ترقَّ لكنّ العتمةُ
عسى أن يعني الصمتُ السلامَ
عسى أن تبعثكنَّ
أصواتُ العتمةِ وظلالُها
إلى جَنَّات النعاس 
عسى أن تراودكن الأحلامُ
ولا يغلبكن النوم.
*
ترى من كاندي وإيمي وجيسي؟ لقد خطر هذا السؤال لكاتب هذه السطور، وكعادتنا في هذا الزمن، لم يعد الواحد يخطر له السؤال فيفكر في إجابته، أو يتأمله، فيجيبه أو يعجز عن إجابته، بل يلجأ لجوء البشر البدائيين إلى جماعته مستقويا بها على الغموض. بات المرء في هذا الزمان لا يصادف سؤالا إلا ويطرحه على الفور، وحينما أقول على الفور فإنني لا أعني بها إلا على الفور، بما تستوجبه هذه السرعة من إيكال الأمر أحيانا، إن لم يكن كثيرا، إلى غير أهله.
في الماضي السحيق، أي قبل عدة سنوات من ظهور فيسبوك وتويتر وغيرهما من مواقع التواصل - وما هذا بتواصل - كان المرء يأخذ سؤاله إلى الجامعة، فيطرحه على أستاذ يرجى منه أن يكون أعلم بالإجابة من غيره؟ أو هو يأخذ سؤاله إلى المكتبة، أو يستشير فيه الموسوعة، ثم جاءت مواقع البحث الإلكترونية فسهلت على الباحثين بحوثهم. ولكن ظهر الفيسبوك، وأصبح على المرء فقط أن يضع سؤاله هناك، استيتس كما يقال، ويجيب الأصدقاءُ كلٌّ بما كتب الله له من معرفة أو جهل.
وهكذا فعل كاتب هذه السطور، عرض السؤال على أصدقائه: في رأيكم من تكون جيسي وإيمي وكاندي، بنات الشاعرة المولودة سنة 81  أم صاحباتها؟
أجاب أحدهم قائلا إنهن ربما قطط تربيها أو كلاب. وأجاب آخر: ما دامت الشاعرة مولودة سنة 81 فهؤلاء على الأرجح صديقات لها. وأجاب ثالث قائلا: جميل فعلا. ولا أعرف ما الجميل فعلا؟ طبعا القصيدة نفسها قد تكون جميلة، ولكن ماذا عن السؤال؟
الإجابة التي مال إليها كاتب هذه السطور، وهو في النهاية مجرد قارئ للقصيدة شأنه شأن أصدقائه على فيبسوك، هي أنه ما من أمٍّ يمكن أن تتمنى لبناتها السهر بدلا من النوم، حتى لو كان السهر هذا مليئا بأحلام يقظة وردية عذبة.
وذلك تحديدا ما علَّق به على تعليقات أصدقائه، فوافقه منهم من وافقه، وتجاهله من تجاهله.
لكن إذا لم تكن كاندي، وإيمي، وجيسي بنات الشاعرة، فهل هن صاحباتها؟ فأي صاحبة هذه التي تأخذ صاحباتها إلى السرير وتتمنى لهن أحلاما سعيدة؟ لسن صاحبات لها بالقطع، وقلنا إنهن لسن بنات لها، وليس في القصيدة ما يدعو إلى الظن أنهن قطط أو كلاب، فما العمل؟
العمل هو أن نقرَّ بأنه سؤال لا طائل من ورائه، وإلا لما طرح على فيسبوك أصلا؟ هو سؤال لا طائل من ورائه لأننا نتعامل مع قصيدة لا مع صحيفة أحوال الشاعرة الجنائية. نتعامل مع نص برغم بساطته إلا أن فيه توتره، ولا يخلو من التناقضات. نص يكلمنا عن وحش اسمه الظلام. نص يخاف من الصمت. نص يرى السعادة في النوم ويراها في السهر، في وقت واحد، ويراها في الأحلام. نص يكلمنا عن صمت الظلام، وعن أصوات الظلام، وعن ظلال في الظلام، وهو في النهاية مهدى إلى ثلاث إناث.
قد تكون الشاعرة صديقة لهن أو أمًّا، لكنها لم تستطع أن تتخلَّص من كونها قبل هذه الصفة أو تلك شاعرة، ترى في كل شيء وجهيه، أو وجوهه، وتحيط في أقل الكلمات عددا بما تلزم كلمات كثيرة لإعادة صياغته، أو لإيضاحه، أو حتى لمجرد تأمله.
لقد خاطبت امرأة فرعون ذات يوم  الله تعالى قائلة "رب ابن لي عندك بيتا في الجنة". لم تكن تلك الأمنية تعني فقط أنها امرأة مؤمنة، ولكنها قد تعني أيضا أنها أمرأة بلا بيت، أنها، وهي الساكنة قصر حاكم مصر، درَّة ذلك العالم وذلك الزمن، كانت تشعر أنها بلا بيت، وأن البيت على وجه التحديد هو ما ينقصها، وأن القادر على تحقيق هذه الأمنية البسيطة ليس أقل من إله مطلق القدرة.
نعم، إلى هذا الحد قد تفضحنا أمانينا. وها هي شاعرة تتمنى من العتمة أن ترقَّ فنعرف أن غاية ما تعرفه عن العتمة أنها قاسية، وتتمنى من الصمت أن يعني السلام فنعرف أن غاية ما تعرفه عن الصمت أنه ما يسبق العاصفة، وتتمنى أحلاما بلا نوم، فنعرف بالضبط فيم تقضي رونيلدا كامفر ليلها إن سهرت وكيف تقضيه إن نامت. نعم، بوسعنا أن نعرف من هذه القصيدة إنسانا، شريطة ألا نفكر في كاندي وإيمي وجيسي اللاتي مهما تكن علاقتهن وثيقة بالشاعرة إلا أن علاقتهن بالقصيدة أوهى ما تكون.



الخميس، 21 يناير 2016

بويكو لامبوفسكي ... الخروج من الخدمة

بويكو لامبوفسكي ... الخروج من الخدمة
Boiko Lambovski


ولد الشاعر "بويكو لامبوفسكي" سنة 1960 في صوفيا ببلغاريا. هو شاعر وكاتب مقال. بدأت كتبه الشعرية في الصدور منذ عام 1986، وكان أولها بعنوان "الرسول"، تلاه "الهوان القرمزي" و"إدواردا"، و"نقد الشعر"، و"الرب آمر الحارس". ترجم شعره إلى الإنجليزية والألمانية والروسية والصربية والسلوفانية والإيطالية والعربية Arabian  وغيرها. حصل على كثير من الجوائز الشعرية التي يحددها موقع بوينت POINT للشعر الدولي (Poetry International)  بعشرين جائزة، وشارك في العديد من المهرجانات العالمية.

من ديوانه الأول "الرسول" قصيدة ترجمت إلى الإنجليزية بقلم كرستينا ديمتروفا.

***
الرجل الصلصالي

أيها الطبيب،

ماذا نفعل في الرجل الصلصالي؟


لا يريد أن يدرس

ويقول: عيناي

تتداعيان بسبب الحروف.


عيناه تبدوان بالفعل

قطرتين مفزوعتين.


ولا يصلح للجندية

رأت اللجنة العسكرية بعدما ضجرت

أن في مخه مَسًّا

من مرض الحمائم.


ولا ينفع بهلوانا؛

يرتعش بشدة

يرتعش يمينا

يرتعش شمالا

وابتسامته


أيها الطبيب،

ماذا نفعل في الرجل الصلصالي؟


رفع الطبيب يده إلى جبينه،

أرضٌ أماتها الجفافُ

جبينُه.


الطبيب لا يؤمن
بربوبية الله.

القوي لا يصدق الضعيف.


السمكة لا تصدق أنها عالقة في الشبكة.


الصحيح لا يصدق المريض.


الشجرة لا تصدق قُبلة المنشار.


الحي لا يصدق الميت.


وهو،

رجلُ الصلصال،

لا يصدق الطبيب.

***
فلنعط الشاعر بويكو لامبوفسكي أولا ما يريده: أدهشْتَنَا. كنا نتصور أن الطبيب هو القوي، هو الذي سوف يقرر. ولكنك كشفت لنا في النهاية أن القوي هو الرجل الصلصالي. الصلصالي الذي لا يصلح جنديا ولا يصلح بهلوانا، ولا يبدو أن هناك احتمالات أخرى. شكرا على المفاجأة.

ونتفرغ من بعد للنظر في المرآة، حيث رجل أو امرأة. حيث إنسان من صلصال من حمأ مسنون. ولنسأل هذا الشخص ساكن المرآة، أأنت حقا الأقوى، أنت يا من لا يجدون فيك نفعا لشيء، أأنت بحق الأقوى؟ منهم؟ بماذا؟ من أي مصدر تأتي قوتك.

يضع الشاعر في موضع القوة السمكةَ في مقابل الشبكة، والصحيحَ في مقابل المريض، والشجرةَ في مقابل المنشار؟ فماذا عن القارئ والشاعر، أيهما في موضع القوة من الآخر؟ أيهما ينبغي أن لا يصدق الآخر؟

ليس هذا سؤالا من خارج القصيدة، إطلاقا؟ فالقصيدة تقترح القوة معيارا للعلاقات بين البشر، فالأقوى هو الذي يحق له أن لا يصدق الأَضعف. وبمنطق هذه القصيدة ينبغي أن نعرف من منا الذي يحق له أن يستقل عن الآخر، أن يصدقه أو يكذبه، أن يتبعه ويسير على خطاه، أو يدير له ظهره ويولي حيثما يشاء: القارئ أم الشاعر؟ أم ترانا ينبغي أن نكتفي بالاعتراض على اتخاذ القوة معيارا؟

لقد عمد بويكو لامبوفسكي بذكاء شديد إلى استمالتنا إليه. جعل الرجل من صلصال، مثلنا جميعا، ضمن القراء من ثلاث ديانات على الأقل في صفه، ثم إنه جعل العدو طبيبا، ومن منا ليس في ذراعه أثر حقنة من طبيب، وثأر مرجأ إلى الأبد. من منا لا ينتظر طويلا، ربما ساعات، وربما أياما، إلى أن يشرف بالمثول بين يدي صاحب الجلالة الطبيب، من منا لا يصل إلى قدس الأقداس وهو لا يكظم غيظا شديدا، وربما بعض الكراهية؟ من منا لن يفرح حينما يشار إلى جبهة الطبيب، واجهة مخه بالذات، بأنها أرض أماتها الجفاف؟ من منا لن يشعر بأن الشاعر ثأر له حينما ألحق هذه الهزيمة بالطبيب، صاحب السلطة أيضا، موزع الهويات على الناس؟

ولكن علينا، ولو في حضرة الشعر، أن نترفّع مؤقتا عن هذه الشهوات الانتقامية، لا ينبغي أن يكون الشعر بالذات سببا لإثارة مثل هذه المشاعر المقيتة فينا؟ كما لا ينبغي أن يكون الشعر بالذات مجالا لإشباع مثل هذه الشهوات؟

ولندع معا، أن تقع هذه القصيدة مثلا بين يدي طبيب، أو ذي سلطة، عساه يتذكر أنه هو نفسه إنسان من صلصال، وأن جلوسه في هذا الناحية من باب غرفة الكشف لن يستمر إلى الأبد.

***


مؤكد أننا بحاجة إلى قدر هائل من العمى، كي لا نرى البشر طبقات بعضها فوق بعض، كي لا نرى رقبة كل إنسان في قبضة إنسان. أو التعامي. أو هي خطوة نرجعها إلى الوراء. ليس على الرجل الصلصالي إلا أن يتراجع خطوة فإذا به خارج حلبة المنافسة، وخارج مقاعد المشاهدين. خطوة محترمة إلى الوراء، يصل بها إلى الموضع الذي كان فيه إنسان الكهف مثلا. هنالك، في كهف عدم الاهتمام هذا، يمكن أن يشعر الرجل الصلصالي أن رقبته لم تعد بين يدي مثيل له. يمكنه هناك أن يتحسس جسمه وهو يشعر أنه جسمه وحده، لا يخدم أحدا غيره. هناك يمكنه أن لا يقيس قوته، فإلى أي شيء يقيسها؟ ويمكنه هناك أن يأمن على نفسه تماما، ويدخر طاقته لمعركة الحياة أو الموت مع الفيروس.