ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

السبت، 31 أكتوبر 2015

مدينة البيوت المنخفضة .. سيرسي مايا

مدينة البيوت المنخفضة
سيرسي مايا
تنساب الشوارع في سلاسة
إلى السماء.
ومن وراء النخيل في الساحة
تغرب الشمس:
ظلال شديدة القرب
ما بين حمراء وأرجوانية.

وأعلى  البيوت غيوم
ـ شرائط هائلة أحيانا ـ
أو غيوم قطنية متألقة الحواف.
وكلها تمس الأسطح الواطئة.

يتمهل النور في الأركان
يعلق في شرفة رافضا إفلاتها.
السماء تلمس كل شيء
وتدخل كلَّ الأماكن.

ونحن
ماذا سنفعل
بكل هذا الأزرق
بكل هذا القرب؟
سيرسي مايا، شاعرة من أورجواي، ومترجمة، وأستاذة للفلسفة. والقصيدة مترجمة من الأسبانية إلى الإنجليزية بقلم جيسي لي كيرتشيفال

الخميس، 29 أكتوبر 2015

ها جين ... لا شيء خير من حياة بلا قصص

لا شيء خير من حياة بلا قصص

ها جين   شاعر وروائي أمريكي صيني، وها جين هو اسم مستعار أما اسمه الحقيقي فهو "جين زويفاي .  ولد ها جين في عام 1956    ، وله قرابة خمسة كتب شعرية وثلاثة أمثال هذا العدد تقريبا من الروايات والمجاميع القصصية. القصيدة التي نقدمها له فيما يلي مأخوذة من مجلة شعر الأمريكية عدد يوليو 2000
***
وقت ضائع
خاوٍ دفتري منذ شهور،
بفضل النور الذي تصبِّينه من حولي
لم يعد لقلمي
نفعٌ؛
وها هو ملقى هنا في وهن
غيرَ مأسوف عليه.

لا شيء خير من حياة بلا قصص
لا تلزمها كتابة فيكون لها معنى
وليقل الآخرون بعد رحيلي
إنهم خسروا رجلا سعيدا،
وإن كان أحد لا يعرف بالضبط
كم كنت سعيدا.
***
لا أحد يعرف وليم شكسبير. ربما تكون شخصيات هاملت والملك لير وماكبث غامضة غير محسومة الأمر، ولكن وليم شكسبير أكثر غموضا منها جميعا، وليس من المنتظر أن يقطع أحد بمن كان بالضبط ذلك الشاعرُ والمسرحي الخالد.
ثمة نظريات كثيرة حول شكسبير، بعضها يشطح حتى إلى أنه لم يكن أكثر من اسم مستعار لامرأة لم يكن بوسعها في ذلك الزمن أن تواجه مجتمعها كاتبةً مسرحية أو شاعرة. ولئن كان الغموض يحيط بهذه المعلومة الأولية البسيطة، فأنَّى لنا الوصول إلى القطع برأي فيما إذ كان قد عاش حياته سعيدا أم تعيسا؟
القصيدة الراهنة، تقول لنا إن حياةً سعيدةً بلا كتابة خيرٌ من حياة لا ميزة فيها إلا الكتابة والإبداع. تقول لنا إن حياة تافهة، خاليةً من قصص تستحق التدوين، هي أثمنُ من حياة تعيسة وإن احتوت على القصص المثيرة.
حياة بسيطة كهذه الحياة سوف تجعل الناس يقولون عن صاحبها إنه كان سعيدا. وإنهم خسروا برحيله رجلا سعيدا. ولكنهم لن يعرفوا مقدار السعادة التي عاشها، أكان كبيرا أم زهيدا. لماذا؟ تلمح القصيدة إلى أن السبيل إلى معرفة مقدار السعادة التي عاشها شخص هو كتاباته التي يتركها وراءه، هو الشهادة الخطية التي يعترف فيها أو يمكننا أن نستخلص منها اعترافا بسعادته.
دعنا إذن من كل الكتب التي تأتي عناوينها على غرار "فلان الفلاني: حياته وشعره" ولنعمد إلى الكتب الأخرى التي تحمل عناوين من قبيل "الأعمال الكاملة لـ فلان الفلاني".
هل ثمة من سبيل لنعرف من ديوانه وحده، إن كان المتنبي نعِم بحياته؟ هل القصائد التي تركها الشاعر الكبير قادرةٌ وحدها أن تكشف لنا عن هذه الحقيقة؟ وأكرر: سنستبعد كل ما قيل خارج الشعر عن علاقته بحكام عصره، عن ثرائه أو فقره، عن شقائه أو سعادته. سنقصر أنفسنا على الشعر، على القصص التي استحقت الكتابة وبقيت من الشاعر شهادة منه لنا.
ولكن شهادة على ماذا؟ على زمنه؟ على مجتمعه؟ على تصوره عن الوجود؟ على ذاته البسيطة؟ ستختلف الحالات من شاعر إلى شاعر، ومن شاعر إلى سارد، ومن سارد إلى سارد، ومن سارد إلى مسرحي إلى آخر أصناف المبدعين وأشخاصهم.
يقول "ها جين"، مخاطبا الحياة فيما نظن، أو الدنيا: خاو دفتري منذ شهور، بفضل النور الذي تصبينه من حولي، لم يعد لقلمي نفعٌ".
في ترجمة حرفية، كان يمكن أن تبدأ القصيدة بقول الشاعر "دفتري باق على خوائه منذ شهور"، فيكون الدفتر أول ما يقابله القارئ في القصيدة، وفي ترجمتنا هذه، يكون أول ما يقابله الخواء. يأتي الدفتر والخواء في الصدارة إذن، برغم أن الدفتر وخواءه ـ في ظاهر القصيدة ـ لا يعنيان الشاعر طالما بقيت الحياة تصب النور على روحه صبا.
فهل ظاهر القصيدة هذا هو باطنها الحق؟ هل الشاعر حقا مستعد أن يعيش حياة لا تمثل الكتابةُ جزءا منها بشرط أن يكون سعيدا. هل يعلّمنا أن الحياة أثمن من أي كتابة؟ أم هو يعزِّي نفسه ويبحث عن أي قيمة لعجزه عن الكتابة؟ وفي النهاية، هل يقصد الشاعر أن رحيله دون أن يخلِّف من ورائه قصة أو قصيدة، يجعل سعادته الغابرة، بل حياته الغابرة كلها، بعضا من العدم؟
"وقت ضائع" هو عنوان القصيدة. و"إن كان أحد لا يعرف بالضبط/كم كنت سعيدا" هي نهايتها.
أما العنوان فلعله يشير إلى أن الوقت الضائع هو الحياة ما لم تسجِّلها حكاية، أو حتى تخلِّدها كلمات. فأي عاقل يمكن أن يوافق على هذا؟ برغم ملايين العناوين التي يتداولها باعة الكتب ومشتروها، برغم كل حاضري المؤتمرات الأدبية والواقفين في الصفوف انتظارا للمشاركة، برغم حفنة الأسماء في بانثيون الكتّاب الأبدي، يبقى الكتّاب أنفسهم أقلية. أكثر منهم المزارعون في الحقول والعمال في المصانع، أكثر منهم الآباء والأبناء في المدن والقرى والواحات والغابات، يسلم كل منهم العصا لمن يعقبه في سباق التتابع العبثي، ويرحل هو بعدما يقضي حياته كيفما يقضيها دون أن يخلف أثرا يذكر. فأي شقاء ذلك الذي يعانيه من تعتمد سعادته على شهادة يتركها بنفسه، وعلى إقرار آخرين بأن ما عاشه هو السعادة؟

وأما النهاية فتقول إنه ما من "أحد" يعرف بالضبط مدى سعادة شخص، ربما حتى الشخص نفسه ليس إلا أحد أولئك الآحاد، أعني الشخص الذي ينبغي أن يجلس ليكتب ليترك من بعده هرما صغيرا من الكلمات يُعرَف من خلاله كيف عاش. ولكن، على ذكر الهرم، أعني هرم الحجارة الكبيرالخالد الباقي عجيبة ومعجزة: هناك من ينظر إليه فلا يرى غير مقبرة، وهناك من ينظر إليه فلا يعرف ما الذي يراه بالضبط. ولا يكاد أحد يفكر في شخص اسمه خوفو، بل في بناء اسمه خوفو، ولا يكاد أحد يطيل التفكير في شخص اسمه وليم، بل في شخص اسمه شكسبير ، وفي بعض الأحيان لا أكثر، أما الجميع، الجميع تقريبا، فيعرفون عن هاملت أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.

الخميس، 22 أكتوبر 2015

كيفن بروفي ... بيتنا القذر

بيتنا القذر


كتبت كارول رومنز في صحيفة جارديان البريطانية بتاريخ الخامس من يناير عام 2009 تقول إن كيفن بروفي شاعر وناقد وروائي أسترالي، وإن اسمه قد يكون جديدا على الكثيرين من القراء البريطانيين. وإذا كان ذلك مجرد احتمال في بريطانيا، فهو أكيد على الأرجح في العالم العربي. تقول رومنز إن اسمه ظل جديدا بالنسبة لها حتى التقت به بالمصادفة عند زيارته إلى جامعة بانجور.
وتمضي رومنز فتقول:
تحوَّلت تجربة قراءة مجموعته الأخيرة، "أسد السيد فتنجنشتاين" إلى مغامرة مبهجة. كنت أعرف أين أنا، لغويا، ولكنني كنت أشعر بسعادة الوجود "بالخارج" في قلب حساسية جديدة، وفي حالة محكمة من الترقب والدهشة".
معنا هنا قصيدة من هذه المجموعة.
***
نقاشون
كأن كل واحد منهم بُعث لكي يلوِّن العالم
ويلوِّن بين كل مطر ومطر
فتثبت الألوان هكذا نفسها
على الجدران والأنابيب والنوافذ.
وحينما تمطر
تجد النقاشين بأرديتهم المبقعة
وأحذيتهم المبرقشة بالألوان
 جالسين في الشاحنات
ومن فوقهم سلالم الشغل
كأنها أجنحة مطوية.
يشربون قهوة بيضاء بملعقتي سكر
ويهيئون أنفسهم على كعك المخبز البلدي
المحلى بالسكر والقرفة.
وفي الليل يحلمون بحواف الدقة البالغة.
يحبون فعل الخريف في الشجر.
أعمارهم قصيرة،
فمن كل لون يدهنونه
ينبعث بخار سام
كأنه تنهيدة
هي التي تنتشر وتجفف وتجعل حياتنا تبدو
حقيقية.
ويقِلّ كلام النقاشين
كلما أحكمت الأبخرة سيطرتها.
وتنظر إليهم زوجاتهم وأبناؤهم
وكأنهم عفاريت من عالم آخر.
وإن سألتهم ماذا نفعل في علب الطلاء المتبقية يقولون
ليس الأمر سهلا
فالألوان قادرة أن تبقِّع البحر
وتقتل السمك.
ولكن هناك أماكن عميقة، وقذرة،
ينبغي أن يذهب الطلاء إليها
حين نزهد لونه
هكذا سيقولون
فتشعر أنهم أعداء اللون الذي يحبونه.
وأنها قلوب عفاريت
تلك التي تنخطف بداخلهم
مع كل ضربة فرشاة
في حائط أو سياج أو مقعد في طريق.
***
تقول كارول رومنز
لا شك أن هناك غواية أكيدة في النظر إلى هؤلاء النقاشين بوصفهم فنانين حقيقيين، بل شعراء على وجه التحديد. ولكن تلك قد تكون القراءة الأكثر سهولة. فلعلهم رمز لكل متفانٍ، سواء أكان عاملا يدويا أم عالما أم جرَّاحا أم نبيا، أم أي شخص متشبث في عمله، وحريص على تغيير العالم، أو إدراكنا له في ثنايا تشبثه بعمله.
تشي القصيدة ـ كما تقول رومنز ـ بأن قائل القصيدة يرى هؤلاء النقاشين للمرة الأولى، أو أنه ينقل إلينا خبر ظهور نوع جديد مثير للاهتمام. وتقدم لنا القصيدة هذا النوع أو السلالة بوصفه نوعا عاديا من الناس نراهم جميعا. لولا أن القصيدة ترى سلالمهم أجنحةً مطوية من فوقهم. ولولا أنها تشبههم في بعض مواضعها بكائنات أسطورية من عالم آخر، تتحرك فراشيهم في عالمنا كما تتحرك الشخصيات السحرية في قصص الأطفال.
***
وبعيدا عن قراءة كارول رومنز التي طال اتكاؤنا عليها. في القصيدة التفاتة أخرى، يقول الشاعر إن "الألوان قادرة أن تبقِّع البحر، وتقتل السمك". ويقول إن بخارا ساما ينبعث من كل لون، وإنه يحكم سيطرته على العالم. ويقول إن ثمة أماكن عميقة وقذرة هي التي ينبغي أن تنتهي إليها بقايا الطلاء. وإشارات كتلك هي التي تحقق للقصيدة تحدِّيها. فمن الصعب أن نرى النقاشين ـ مع هذه الإشارات ـ رسلا مبعوثين لتحقيق الجمال، أو الجمال وحسب. ثمة نيّة مبيّتة على تأكيد حقيقية العالم وواقعيته. ثمة تضحية يبذلها هؤلاء النقاشون، إذ يرضون بالنظر إليهم كعفاريت أو كائنات من عالم آخر، في سبيل أن يبيّنوا لنا أن البحر نفسه يعجز عن احتمال الألوان التي نطلي بها العالم، وفي سبيل تعريتهم لعالمنا هذا، وفي سبيل كشفهم لنا عن أماكن أعمق وأقذر ينبغي أن تكون مقابر للبقايا.
لعل تلك مشكلة كل من قالوا الحقيقة، أو زعموا أن قولهم هو الحقيقة. لعل ذلك هو مصدر الإزعاج في كل من جاء إلى العالم برسالة جديدة. ولعل ذلك ما جعل قوم كل نبي ينبذونه ويعادونه. ضعوا أنفسكم مرة مكان الكفار. تخيلوا أنفسكم جالسين في بيتكم في المساء، تشاهدون روتانا سينما، عاجزين ـ مصداقا للشعار الرائج ـ عن إغماض أعينكم، ثم يطرق الباب شخص، ويستأذن في الدخول: إن في يده مكنسة، وإن على كتفه قطعة من قماش، وإنه يقول لكم إنه متبرع بأن يجعل بيتكم نظيفا.

هذا لا يعني فقط أنه رجل كريم بوقته وجهده. هذا يعني أيضا أن بيتكم قذر. 

الخميس، 1 أكتوبر 2015

تشارلز بوكوفسكي .. خارج قفص الحضارة

خارج قفص الحضارة


ولد الشاعر الأمريكير تشارلز بوكوفسكي في ألمانيا عام 1920. وكان عام 1946 نقطة تحول في حياته، إذ عجز فيه عن نشر أعماله فتوقف عن الكتابة لعشر سنوات تردَّى فيها إلى الإدمان على الشراب حتى أصابته القرحة فقرَّر استئناف الكتابة من جديد. عمل في العديد من المهن الغريبة: غاسل صحون، سائق شاحنات، حمال، ساعي بريد، حارس، عامل في محطة بترول، أمين مخزن، موظف شحن، موظف بريد، عامل في موقف سيارات، ممرض في الصليب الأحمر، عامل مصعد. كما عمل في مصنع لبسكويت الكلاب، وفي مجزر، وفي مصنع للكعك والبسكويت، وفي تعليق الملصقات في محطات مترو الأنفاق في نيويورك.
كتب الرواية والقصة وكتب للسينما، ولكنه يبقى دائما الشاعر الشهير والصعلوك الشهير تشارلز بوكوفسكي، أو كيفما نطقتم اسمه.
***
سؤال وجواب
يجلس عاريا وسكران في الغرفة
في ليلة صيفية
يمرِّر نصلَ سكينةٍ تحت أظافره
مبتسمًا
شاردا في كلِّ تلك الرسائل التي وصلته
تقول له إن الطريقة التي يعيش بها
ويكتب عنها
هي التي جعلتهم يواصلون
بعدما بدا كلُّ شيء آخر
باعثا حقا على اليأس.

وضع النصل على المنضدة،
نقره بإصبعٍ
فراح يدور
في دائرة وضّاءة
تحت المصباح.

ومَن بحق الجحيم
ينقذني أنا؟
هكذا حدثته نفسه.

وإذ توقفت السكين عن الدوران
جاءته الإجابة:
أنت الذي سوف تنقذ نفسك.

ومبتسما لا يزال:
أ ـ أشعل سيجارة
ب ـ صبَّ كأسا آخر
ج ـ نقر السكينة فدارت
دورة أخرى
***
كلٌّ وشأنه في هذا العالم. كلٌّ عارٍ في حَيِّزٍ ما، ولو في حَيِّز ثيابه التي تستر عريه. كلٌّ جاء الدنيا وحيدا، وراحلٌ عنها وحيدا، وكلٌّ في ما بين المجيء والرحيل يتدرّب يوميّا على الوحدة إذ يغمض عينيه كلَّ ليلة على دغل أفكاره ورغباته وشروره ولعناته، وعلى نهر مصيره مجهول المنبع والمصب. فليس إذن من جديد في الإجابة التي يخلص إليها بوكوفسكي: "أنت الذي سوف تنقذ نفسك".
بل وما من جديد في الاستهانة الأخيرة بالإجابة، فكلٌّ منا جرَّب ولو مرة أن ينقر السكينة لتدور حول نفسها كأنها كوكب أرضي ضئيل تائه في الفضاء. كلنا في هذه اللحظة أو غيرها نتلهّى بأي شيء عما تفرضه علينا هذه الإجابة من مسئولية أو تحتِّمه علينا من عمل.
***
يقرأ المرء هذه القصيدة فيود لو يقابلهم، أولئك الذين بعثوا الرسائل إلى بوكوفسكي. يقرأ المرء هذه القصيدة فيود لو يعرف أي نوع من البشر ذلك الذي يجد في حياة تشارلز بوكوفسكي بالذات خلاصا له.
بوكوفسكي صعلوك بالمعنى العربي القديم للكلمة، بوهيمي بمعنى الكلمة، عاش حياته كلها خارجا على المجتمع، لا يعنيه من المدن إلا حاناتها، ومن الحياة برمتها إلا متعها، ولا يقدم للعالم من حوله إلا قصائده وكان للحق غزير الإنتاج تتوزع قصائده الكاملة اليوم على مجلدات عديدة.
وكما ترون. يكتب بوكوفسكي قصائد شديدة البساطة، لا يشغل نفسه بما يشغل الشعراء أنفسهم به، ويقيسون عليه نجاحهم أو حتى مجرد مساحة وجودهم كشعراء. لا أظننا نجد في هذه القصيدة صورة شعرية يمكن استخدامها في تعليم الفارق بين الاستعارة والكناية مثلا. إنما هو مشهد، لرجل عار في غرفة في ليلة صيفية.
جمال كثير من قصائد بوكوفسكي يأتي من معرفتنا بصدق وقائعها، من إحساسنا إذ نقرؤها أنها ليست قطعا فنية معروضة هدفها إثارة الإعجاب على الأقل، بل تقارير من الجبهة، وأننا لا نقرأ عن شخصية مؤلَّفة، بل عن إنسان مثلنا، ولكن لديه من الشجاعة أن يقف في عرض الشارع دون أن يكون لديه ما يخفيه، وتبقى متعتنا نحن إذ نقرأ قصائده كمتعتنا إذ نشاهد العاصفة ولكن عبر شاشة، أو المطرَ ونحن آمنون من وراء شباك محكم الإغلاق.
لذلك، يود المرء لو يراهم، أولئك الذين وجدوا من الشجاعة أن يقتدوا ببوكوفسكي، وينفضوا عن أنفسهم ما أبدعته الحضارة الإنسانية من قيود، ويعيشوا غير مغللين إلا برغباتهم وحدها.
ذلك ربما هو الدافع العميق وراء إقبال المقبلين على كتابات بوكوفسكي، وهنري ميلر، ومن على غرارهما من صعاليك الأدب والفن في كل زمان. طبعا لدى هؤلاء جميعا بدرجات متفاوتة أفكار وجمال ولديهم كل ما يمنح للقارئ المتعة التي يبحث عنها متلقو الفنون. ولكن ثمة أيضا الفرصة في الإحساس بأن أمثالا لنا في الإنسانية فعلوها، وأن الفرصة سانحة لنا أيضا، للخروج من قفص الحضارة.