ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الثلاثاء، 28 أبريل 2020

إيفان بولند ... ما قد يبقى من أي أطلانطس


ما قد يبقى من أي أطلانطس


ولدت إيفان بولند في دبلن بأيرلندة عام 1944، لأب دبلوماسي وأم رسامة انطباعية. في السادسة من عمرها، انتقلت إيفان مع أسرتها إلى لندن، حيث عانت للمرة الأولى من مشاعر كراهية الأيرلنديين. وفي وقت لاحق عادت إلى دبلن لتلتحق بالمدرسة، ثم لتدرس في كلية ترينيتي التي تخرجت فيها عام 1966. إضافة إلى دراستها في لندن ونيويورك.
Eavan Boland

من دواوينها "منتخبات جديدة" عام 2008، عنف أسري عام 2007، "ضد القصائد الغرامية" عام 2001، "الأرض الضائعة" عام 1998، "مصدر كالماء" عام 1996. "في زمن العنف" عام 1994. "خارج التاريخ" عام 1990. "الرحلة وقصائد أخرى" عام 1986، وغيرها من الدواوين التي بدأت نشرها عام 1980.
حصلت على عدد من الجوائز الأدبية المحلية والأوربية، وتمارس التدريس في كلية ترينيتي وجامعات أخرى. وتوفيت في عام 2020.
من ديوانها "الأرض الضائعة" الصادر عام 1998 هذه القصيدة:
***
أطلانطس .. سوناتا ضائعة
كم سألت نفسي
تُرى كيف لمدينة كاملة
بأقواسها، وعمدها، وجدرانها
ناهيكم عن المركبات والحيوانات،
أن تغوص هكذا ذات يوم؟

وكم قلت لنفسي
إن العالم أيامها كان صغيرا.
فهل من المؤكد أن مدينة عظيمة ضاعت؟

كم أفتقد مدينتنا القديمة
بفلفلها الأبيض، وحلواها البيضاء، وبي وبك
نلتقي أسفل النوافذ المروحية والسماوات الخفيضة
لنعود معا إلى البيت.

وأحسب أن ما حدث فعلا
هو أن مؤلفي الحكايات الخرافية القدماء
فتشوا وفتشوا عن لفظ يقولون فيه
إن ما كان قد كان وإنه لن يعود
وإنهم أطلقوا على حزنهم ذلك اسما
وإنهم بأنفسهم أغرقوه.
***
لست بحاجة لكي تدخل أطلانطس إلى الاشتراك في يانصيب سنوي يفوز به خمسون ألفا من كل أنحاء العالم، ولا يمكن للمغضوب عليهم والضالين أن يشاركوا فيه من الأساس. أنت بحاجة إلى ما هو أصعب من ذلك بكثير، بحاجة إلى أن تكون هناك أطلانطس أساسا. أو لعلك بحاجة إلى ما هو أكثر إمتاعا وأقدر على البقاء: أن تتخيل.
***
وأحسب أن ما حدث فعلا
هو أن مؤلفي الحكايات الخرافية القدماء
فتشوا وفتشوا عن لفظ يقولون فيه
إن ما كان قد كان وإنه لن يعود
وإنهم أطلقوا على حزنهم ذلك اسما
وإنهم بأنفسهم أغرقوه.
لعل إيفان بولند تقصد بصناع الخرافات القديمة أو مؤلفيها شخصا واحدا معروفا باسمه هو أفلاطون.
***
أفلاطون أقدم من تكلم عن أطلانطس، المدينة الجزيرة التي يعتقد أنها كانت موجودة، وأنها كانت قوة بحرية كبيرة سيطرت على غرب أوربا، وحاولت غزو أثينا، ففشلت، ويعتقد أيضا أنها غرقت في يوم واحد. ويميل بعض الدارسين إلى أن أفلاطون قد اختلق الجزيرة اختلاقا للتدليل على بعض نظرياته السياسية. وعلى كل حال، تبقى أطلانطس وإرم ذات العماد، وربما غيرهما، مدنا أكثر إثارة للحلم والخيال من نيويورك وباريس وبرلين.
***
تميل إيفان بولند إلى أن أطلانطس لم تكن موجودة أصلا، فكيف تختفي في يوم واحد مدينة بأقواسها وعمدها ومركباتها وحيوانتها (ولاحظوا أن الشاعرة لم تشر إلى البشر مطلقا)؟ وترى أيضا أن صناع الخرافات اخترعوا أطلانطس لتكون اسما للفقد، أو للحزن الناقد عن الفقد، عن ضياع شيء بلا أمل مطلقا في رجوعه.
وبرغم ذلك، برغم إيمانها بأسطورية المدينة، أو حتى بخرافيتها، لا يمنعها هذا من أن تفتقد فلفلها الأبيض وحلواها البيضاء، وعودتها هي وحبيبها إلى بيتهما فيها، مستظلين بسماء خفيضة، ومستمتعين بنوافذ جميلة.
يقول الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك: إنني أتخيل مدنا لأتوه فيها. فهل كان في قوله هذا ينطق أيضا بصوت إيفان بولند؟ وهل كان يشعر بمثل ما شعر به أفلاطون؟
***
كم أفتقد مدينتنا القديمة
بفلفلها الأبيض، وحلواها البيضاء، وبي وبك
نلتقي أسفل النوافذ المروحية والسماوات الخفيضة
لنعود معا إلى البيت.
لتمتلئ المدن ما شاءت بتماثيل الزعماء، طغاتهم وعادليهم، بأقواس النصر، مزيفها وصادقها، بالصروح الغافلة عن الأكواخ، والأكواخ الغافلة عن الصروح، لتمتلئ بالأكاذيب والحقائق، لتمتلئ بما تشاء، على أن تعلم وهي تمتلئ أن ما سيبقى له الحنين حقا من كل ما فيها لن يعدو حنين امرأة إلى رجل، أو رجل إلى امرأة. الأغنيات لا الأناشيد. الصلوات لا العظات. الأوطان لا الدول.

السبت، 18 أبريل 2020

عن الرجال والحب


عن الرجال والحب

ولد الشاعر الأفروأمريكي روبرت هايدن فى عام 1913 وتوفي في عام 1980. درس فى جامعتى وِين وميشيجن. أصدر مجموعته الشعرية الأولى ونال عنها جائزة الشعر الكبرى من المهرجان الدولى للفنون الأفريقية فى داكار بالسنغال عام 1965. كان هايدن أول أمريكى أفريقى يعمل مستشارا شعريا لمكتبة الكونجرس وهو تكريم رفيع أصبح يُطلق لاحقا على من يحوزه لقب أمير شعراء أمريكا.

Robert Hayden




تلك الآحاد الشتائية
في أيام الأحد أيضا
كان أبي يستيقظ مبكرا
ويرتدي ثيابه في البرد القارس
وبعدئذ بيديه المشققتين
وقد كدَّهما العمل في طقس الأسبوع السابق
يجعل النار الخابية تتوهج.
وما كان أحد يشكره.

كنت أصحو فأسمع البرد يتشظي،
يتفتت.
وحين تصبح الغرف دافئة،
كان ينادي
وعلى مهلٍ أنهض
ألبس
مجتنبا غضبات ذلك البيت المألوفة

أتكلم معه دونما اكتراث
هو الذي طرد البرد
ولمَّع لي حذائي الجميل أيضا.
ما الذي كنت أعرفه أنا عن الحب
وأثقاله الجهمة الموحشة.
***
كتب الشاعر الأفروأمريكي روبرت هايدن أفضل أعماله في ستينيات القرن العشرين عندما كان رهط كبير من الشعراء الأفروأمريكيين، أي المنتمين عرقيا إلى سلالة هايدن، يملأون العالم صخبا نبيلا، منددين بالتفرقة العنصرية. في ذلك الوقت الصاخب، كان روبرت هايدن يرفض اعتباره ناطقا باسم سلالته، كان يصر على أنه شاعر وحسب. وهذه قصيدة لا يكتبها إلا شاعر، شاعر وحسب.
في قراءة لهذه القصيدة كتبت الشاعرة الأمريكية ماريان بوروش تقول:
"في أيام الأحد أيضا كان أبي يستيقظ مبكرا" هكذا يستهل روبرت هايدن قصيدة "تلك الآحاد الشتائية" الشهيرة، بشيء يبقى في الذاكرة. يقول الشاعر: في أيام الأحد أيضا، فيعرفنا بأمر أبيه في كل يوم من أيامه. يصغي الصبي الابن من غرفة مجاورة، وربما من حالةِ ما بين النوم والصحو لطقس أبيه اليومي في البرد القارس وهو يوقد المدفأة. وذلك في يوم الإجازة، أيضا، أي أن ذلك يحدث كل يوم، بلا انقطاع، وبلا شكر من أحد.
وكما يستهل الشاعر قصيدته ببيتين عصيين على النسيان، يختتمها بأبيات لا يمكن أن تسقطها ذاكرة: "ما الذي كنت أعرفه أنا عن الحب/وأثقاله الجهمة الموحشة". أتذكر بعد سنوات طوال، في إنديانوبوليس، والسيارة تشق طريقها عبر شوارع مكسوة بالجليد حاملة إياي وحفنة من الآخرين. ودونما سبب، تعالت تلك الكلمات. ومرة أخرى، منذ شهور قليلة تعالت تلك الكلمات مرة أخرى في مطبخ إحدى الصديقات على مبعدة ولايتين. وتبقى هذه الأبيات تتعالى دوما بلا سبب واضح".
لا أحسب إلحاح هذه الأبيات أمرا يخص ذاكرة ماريان بوروش أو روحها أو ذاتها هي فقط. أحسب أنها تعاود، كالإحساس بالذنب، كلَّ من كان عليه أن يقول شكرا ولم يقلها. ولكنها لا تعاود أمثال هؤلاء لتؤنب ضمائرهم أو لتخفف عنها، إنما هو مزيج قاسي الأثر من الاثنين.
ما الذي كنت أعرفه أنا عن الحب وأثقاله الجهمة الموحشة؟ ذلك السؤال النبيل، لا تعرف حقا من المقصود به؟ كان طفلا من طرحه، فعمن كان يتساءل؟ عن أثقال الحب الذي يكنه الأب لأبنائه، فيبكر في الصحو، ويدفئ البيت، ويلمع الأحذية، ويخرج إلى العالم في البرد القارس، ليؤمن ثمن الفحم الذي يحرقه بعد ذلك بيديه؟
أم أثقال حب الولد لأبيه، الذي سيجعله في ما يلي من العمر يكتب هذه القصيدة، عسى أن يتخلص فيها من أوجاع حبه لأبيه، حبه الذي لم يعبر عنه في حينه ولو بكلمة شكر؟
غير أن لكل من لم يشكروا محبيهم عزاء يقدمه وليم شكسبير، في ما ينقل عنه يوسف شاهين في "الاختيار": أنا الذي أحبك، إذن أنا المدين لك بكل شيء.
وعلى سيرة شكسبير. في مسرحية "الملك لير" يسأل الملك الهرم بناته، وقد قسَّم مملكته بالفعل إلى ثلاثة أقسام اعتزم أن يهب كل بنت أحدها، يسألهن أيهن أكثر حبا له من الأخريين. وينطلق لسان كل بنت بما يسعفها به الجشع، إلى أن يحين دور الصغرة، فإذا بها تقول "لا شيء". ليس لدى كورديليا ما تقوله عن حبها لأبيها. ويمضي الحوار القصير بين الأب وابنته فيقول لها "ما أصغرك" ويقول لها "وما أقسى قلبك". وتبدأ مأساة أحمق شكسبير العظيم.
أهو أحمق حقا؟ ربما كملك يكون كذلك. ربما تقسيمه المملكة في ذاته، بغض النظر عن أساس القسمة، يكفل له جدارته بصفة الحماقة. ولعله أحمق أيضا كأب، إذ نبذ إحدى بناته لأنها الأقل موهبة بين شقيقاتها في الكذب. لكن ماذا عنه كرجل؟ لنقبل أنه أحمق أيضا كرجل. لكن لا ينبغي أن ننسى أنه اشترى بمملكة، مملكة كان ملكا متوجا عليها، بضع كلمات. لم يطلب الرجل أكثر من كلمات ثمنا للنزول عن عرشه. وربما لا يطلب رجل أكثر من هذا. كلمات فقط يبذل بها نفسه وعمره وطاقته، ويعلم نفسه كيف يجد سعادته في سعادة غيره. حمقى؟ نعم، حمقى، حمقى إلى حد أن نقضي آلاف السنين من وجودنا على الأرض في محاولة لإقناع كل من حولنا بأننا في غنى عن الحنان، تغنينا عنه قوة سواعدنا، أو مدى أسلحتنا، أو حجم سلطاتنا، مرغمين كل من حولنا على تصديق ذلك، لندفع الثمن ألما كالذي شعر به لير واختزله في بضع كلمات "ما أصغرك، وما أقسى قلبك"، ألم لا ينبغي أن يظهر على وجوهنا، ألم يتجدد فينا ويتراكم علينا كلما نظرنا في عيون من حولنا فلم نر فيها ما نعلم أننا في غيابه لن نذوق طعم السعادة.

الثلاثاء، 7 أبريل 2020

زواج هنا ... إعصار هناك


                                                                   زواج هنا ... إعصار هناك

لورنس راب (1946 - ) شاعر أمريكي وأستاذ جامعي ، ولد في بيتسفيلد بولاية مساتشوستس. صدر له عدد من الدواوين آخرها "الحياة المجاورة لهذه الحياة" (2017)، وله فضلا عن الشعر أعمال مسرحية، والقصيدة التالية مأخوذة من كتابه "ما لا يعرفه أحدنا عن الآخر" (1993)



Lawrence Raab 

زواج


بعد سنين يجدان نفسيهما
يتكلمان عن الصُدف،
عن اللحظات التي كان يمكن فيها
أن تسلك حياتهما مسارا آخر
لأبسط الأسباب.
يقول:
               ماذا لو كنت
لم أتصل ذلك الصباح؟
ماذا لو أنكِ كنتِ بالخارج
مثلما كنتِ حينما حاولتُ ثلاث مرات
في الليلة السابقة؟
حينئذ تكشف له سرا.
كانت موجودة طوال ذلك المساء
وكانت تعرف أنه المتصل
ولذلك لم ترد.
               لأنها شعرت
بل لأنها أيقنت
أن حياتها سوف تتغير لو رفعت السماعة
وقالت: آلو
وقالت: كنت أفكر فيك حالا.
تقول له: خفت.
وفي الصباح
كنت أعرف أيضا أنك المتصل
ولكني رفعت السماعة
ورددت
مثلما يرد أي شخص على رنين الهاتف
غير متصور أن لديه خيارا آخر.
***
قبل قرابة خمسين سنة، وقف عالم رياضيات أمريكي يدعى إدوارد نورتن لورنز (1917-2008) أمام حشد من العلماء في المؤتمر التاسع والثلاثين بعد المئة للاتحاد الأمريكي لدعم العلم وطرح سؤالا: هل رفيف جناحي فراشة في البرازيل يطلق إعصارا في تكساس؟ كان سؤاله ذلك بداية ما عرف بنظرية "أثر الفراشة".
لا أعرف، ولا يعنيني، كيف تغير العالم أو العلم بهذه النظرية. لا يعنيني أثر أثر الفراشة على أطروحات نيوتن قبلها، وعلوم المناخ والتنبؤات الرياضية ونظرية الفوضى بعدها. لكن يعنيني، وينبغي أن يعنيك، أن العالم لن يكون هو العالم حين أضع نقطة الآن منهيا هذه الجملة. شيء ما حدث. شيء أكبر من مجرد وضع نقطة بعد بضعة حروف. شيء لعله إعصار في تكساس، أو ابتسامة في باب اللوق. شيء ما ولكننا لا نعرفه.
تقول المقالات التي تتناول أثر الفراشة في المجلات والمواقع العلمية إن الثقافة العامة تبنت نظرية لورنز وانحرفت بها عن مقاصده الأولى. ولكن كيف كان للثقافة أن تقاوم هذا الإغراء؟ لقرون منذ ثبت للبشر عدم مركزية الأرض في الكون، تدهور احترام الإنسان لذاته، هان على نفسه، ولم يعد في نظر الكثيرين ذلك الكائن الذي انطوى فيه العالم الأكبر. كيف كان للثقافة أن تترك العلم ينفرد بهذه النظرية وهي الكفيلة برد الاعتبار لا للإنسان وحده، بل لكل كائن على وجه الأرض، لكل حبة رمل ولكل جبل، لكل كلمة حب ولكل إعلان حرب؟ كيف كان للثقافة أن تهمل فرصة تثبت فيها للإنسانية أن لكل شيء قيمة وقدرا وحسابا؟
***
 بعد سنين يجلسان، ويتكلمان عن الصدف. لا تعيننا القصيدة فنعرف أي الاثنين بدأ الكلام. لا نجد فيها إلماحا إلى سبب هذه الجلسة: أهو الامتنان لتلك الصدف القديمة؟ أم الندم على ما أعقبها من سنين جمعتهما؟ لا تعنى القصيدة بشيء من هذا. لا تعنى بهذين الإنسانين بالذات، والحقيقة أنها بهذا القرار، قرارها بأن تتجاهل روحي هذين الاثنين، اتسع اهتمامها لتشمل كل الأرواح، لتشملني أنا، وتشملك أنت.
أفكر الآن في هذه الجلسة باعتبارها رفيف جناحي فراشة آخر، باعتبارها اتصالا هاتفيا آخر، باعتبارها مفترق طرق لن تصبح الحياة بعده كما كانت قبله. أفكر فيها وأتساءل: ماذا سيكون من شأن هذا الزوج وهذه الزوجة بعد تلك الجلسة؟ وأفكر: هل سيخطر لهما بعد هذه الجلسة أن الأمر ليس رجلا وامرأة وحسب، وأن وجودهما معا، هذا الشيء الكريه أو الجميل، هذا الشيء المتكرر بلا نهاية، هذا الشيء البسيط للغاية، هو شيء لا يخصهما وحدهما، وقرار لم يتخذاه بمعزل عن سواهما، إنما لهما فيه شريك، ولا أعني الهاتف، ولا الرد على الهاتف، ولا عدم الرد على الهاتف، لا أعني الصدف التي اقتنصت ولا الصدف التي أهدرت، إنما أعني الكون كله: شريك كل اثنين في سريرهما.
***
لم أفهم قط أولئك الذين يبتسمون على الشاشات كاشفين أسنانا عضت كل شيء إلا أصابع الندم، فيقولون: لا. ويهزون رؤوسهم في حسم ويكررون: لا. ثم يرفع أحدهم إصبعا في وجه محدثه ويعلنها: لو عاد بي الزمن لفعلت كل شيء مثلما فعلته في المرة الأولى! لم أفهمهم ولم أدر سبيلا يصل عبره إنسان إلى هذا الرضا المطلق عن حياته إلا انعدام الخيال.
ليس الأمر أن كل خطوة خطوناها منحتنا في طريق بقدر ما حرمتنا في طريق آخر. ليس الأمر دعوة إلى الندم، ولكنها دهشة ممن لا يوسعون حياتهم بالخيال، ممن لا ينظرون إلى كل خطوة خطوها متسائلين ما الذي كان ينتظرهم لم لم يخطوها، أو لو خطوها في وجهة أخرى.
وأتذكر روبرت فروست (1874-1963) وقصيدته الشهيرة "الطريق المتروك"، يبدأها قائلا:
طريقان انشعبا في غابة صفراء
ومن أسف لم أكن لأسلك الاثنين
أنا المسافر الواحد
وينهيها قائلا:
في مكان ما على بعد عصور وعصور
انشعب طريقان في غابة وأنا ...
أنا سلكت أخواهما من المسافرين
فكان في ذلك الفارق
كل الفارق.
أتخيل ذلك الرجل في الخريف. أتخيله على صهوة حصان. أتخيله في اللحظة التي تمهل فيها قبل أن يسلك أحد الطريقين، ناظرا إلى الطريق الآخر، متأملا كل ما أمكنه أن يراه منه حتى انعطافه مخفيا عنه ما لن يعرفه أبدا. أتخيله، وأعرف أننا وإن لم نركب ذلك الحصان قط، لم نركب غيره.

السبت، 4 أبريل 2020

معي جمال كافر ... معي جمال كافر



معي جمال كافر ... معي جمال كافر

بدأت الحكاية بسيطة للغاية: شخص يقرأ مادة تعجبه، فيفكر أن يدعو أصدقاءه في فيسبوك إلى قراءتها. ينسخ الرابط، وينسخ سطورا، ويجرب أن ينشر ما نسخه في الموقع الأزرق، فيفاجئه أن خللا طرأ على ترتيب الكلمات والحروف. ولأن السطور التي اختارها قليلة، يقرر أن ينسخها بيده نسخا صحيحا لا خلل فيه.

ذلك بالضبط ما حدث معي وأنا أقرأ شهادة الشاعر الصديق عماد أبو صالح عن الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كفافيس (1863-1933) في نسخة رقمية (PDF) من عدد مارس 2020 من مجلة الدوحة. هكذا تحول فعل القراءة إلى فعل كتابة، أو إلى قراءة متأنية جعلتني ألعن القراءة الأولى، السريعة، الغافلة. ولعلي كان ينبغي ألا ألعن، وإنما أتشكك، أتشكك في كل قراءة تتجاوز سرعة الكتابة، أتشكك في كل قراءة لا تكون بالقلم، أعني كل قراءة كالتي تقرأونها أنتم الآن، عبر شاشة.


عماد أبو صالح في بيت كفافي بالإسكندرية ـ ديسمبر 2019

***
حدثنا عماد أبو صالح قال:

"كتب قسطنطين كفافيس عن بائع متجوّل عاش في  الإسكندرية، سنة 31 قبل الميلاد. كان وسط الضجيج الكبير وصخب الموسيقى، ينادي: "بخور"، "زيتون ممتاز"، "زيت شعر"، "لبان".
لم يسمع أحد صوته. دفعته الجموع بأكتافها، وهي زاحفة للاحتفال بأنطونيو، الذي كان يتقدَّم، في اليونان، من نصر إلى نصر.

أنا رأيت البائع نفسه،
بعد أكثر من ألفي سنة،
بين الحشود الهائلة من الثوار
يحمل البضائع نفسها،
وينادي بالحماس نفسه،
وتدفعه الأكتاف نفسها.

كيف أمكنه أن يعيش
كل هذه السنين؟
كيف لم تتلف بضاعته،
رغم مرور كل هذا الزمن؟
***
ثمة في هذه السطور كلمتان تمثلان جملة اعتراضية، أحسب أنني في قراءتي الأولى لم أنتبه إليهما: في اليونان.
لقد كانت حشود الإسكندرية التي دفعت البائع بأكتافها أو دهسته تحت أقدامها ذاهبة للاحتفال بشخص "في اليونان"، والتهليل لانتصارات تتحقق دون أن يروها. كانت الجموع ماضية لإجلال شيء ليس بين أيديهم. أما ما كان بين أيديهم، أو ظهرانيهم، وما كانوا يسمعونه بآذانهم، فدفعوه عنهم، ونحوه من طريقهم.
ألا تصلح هذه استعارة لمترجم الشعر؟ لي أنا؟ أنا الذي منذ عشرين عاما أطلب الشعر من شتى البلاد، لماذا لم أنتبه إلى ما هنا، إلى ما يسرح به بائع يدفع عربته ـ أو تجرُّه عربته ـ في شارعنا كل صباح وكل مساء، مناديا: عندي جمال كافر، معي عجوز تؤلمه الضحكات!
ألفا سنة مضت، ولم يزل البائع تهمله الحشود، لكن الحشود هذه المرة ليست حشود المحتفلين، إنهم ثوار. أكاد أجزم أنني أعرف الثورة المعنية، أكاد أجزم أنها كانت حفلة أيضا، أقيمت على شرف نصر ربما لم يكن بعيدا في اليونان، لكنه مع ذلك كان بعيدا، وبقي بعيدا، بُعدَ نصر لم يتحقق بَعْد، ولم يتحقق قط. وهذا ما لم يزل يحدث، هذا تقريبا هو الناموس العابر للألفيات: علينا أن نجد مبررا لدهس الشاعر، وتنحيته.
طبعا هو الشاعر. لا الذي دفعته أكتاف السكندريين قبل ألفي سنة بائع بخور، ولا الذي يمر ببيتي كل صباح وكل مساء إلا عماد أبو صالح. وليس الفيل في القصيدة التالية بفيل أصلا، أعني هذه القصيدة لجاك جيلبرت (1925-2012):
جاك جلبرت

في ذم الشعر

كان ملك سيام إذا أبغض رجلا من بلاطه
أعطاه فيلا أبيض جميلا.
ذلك الحيوان المعجز
كان ينبغي له من الشعائر والطقوس
ما يجعل الاعتناء به هلاكا له
أمّا عدم الاعتناء به فأدهى وأمرّ.
وما لأحد أن يرفض الهدية.

اغفروا لي، أولا، هذه الترجمة السريعة. وثانيا، دعكم من رجال البلاط المغضوب عليهم في سيام، وارجعوا بنا إلى الاسكندرية قبل ألفي سنة، وإلى ميدان التحرير قبل سنوات، حيث بائع لم يغضب عليه ملك سيام، ولم يوهب فيلا أبيض جميلا معجزا، ولعينا؛ تقتله العناية ويقتله الإهمال فلا تعرف ماذا يحييه وماذا يرضيه وماذا يرفع عنك عقاب مانحه، ارجعوا بنا إلى بائع تنبذه الجموع وتغفل عن نداءاته الآذان، إلا أذن كفافيس تارة وعماد أبو صالح تارة أخرى.
ارجعوا بنا وأخبروني: هل ذلك شر أم خير؟ أن يبقى البائع مهملا. لا أريد أن أغالي، لا أريد أن أجعل من الشاعر قديسا يجد رضاه في عزلته، أو مريضا يجد لذة في أن ينهره الناس ويهملوه، ولا أريد أن أقول إن البائع السريح لا يغنيه عن عربته وركنه الصغير عرش أنطونيو. لا أريد أن أقول شيئا من هذا. لأنني لا أعرف شرا خالصا أو خيرا خالصا.
أريد أن أقول فقط إن هذا للشاعر، أيِّ شاعر، هو وصف المهنة (job description) كما يقول أهل الموارد البشرية. هذا ما يحدث لك إن أردت النزول إلى سوق الشعر بما معك من بضاعة. يكون عليك أن تترك كل شيء، لتعيش في خدمة فيل أبيض جميل معجز، لا حياة لك إلا بحياته. فيل هو العقاب والثواب معا. قد لا تعرف أبدا كيف تبقيه على قيد الحياة، ولكن من المؤكد أن انصرافك عنه إلى الناس، أو إلى ما عداه، لا ينبغي أن يكون خيارك. هذا فيل عليك أن تبقي عينك عليه، فبهذا فقط يحيا، وتحيا.
***
كتبت ما سبق بالأمس. في سويعات الفجر الأولى. ومضيت في ما بقي من يومي أفكر، لا أدري لذلك سببا، في الشعراء الذين يتحولون إلى سلع.
لقد خطر لي، وكتبت فعليا، أن العزلة، بل النبذ في بعض الأحيان، جزء من الوصف الوظيفي للشاعر. لماذا؟ لماذا يكون الأمر كذلك؟
الشاعر بطبيعته، أي برغم أنفه، يهدم ما يبنيه غيره. تعالوا نتأمل لافتة زرقاء على طريق. هذه اللافتة تحدِّد، بكلمات قليلة، وجهات المارة، يقرأها الركاب في سيارتين متجاورتين، فتنعطف إحداهما بعد خمسمئة متر، وتواصل إحداهما الطريق. الجميع قرأوا الكلمات نفسها، وتباينت مع ذلك النتائج والمآلات. هل هذا ما يفعله الشعر؟ على الإطلاق.
من شأن هذه اللافتة الزرقاء، إن أصبحت كلماتها القليلة شعرا لا أمرا، أن تفعل في السيارتين شيئا آخر: توقفهما. لا تحيد إحداهما عن الطريق ولا تكمله الثانية. لأن الطريق نفسه ينتفي. لأن اللغة التي تنتقل عبرها تعليمات الحركة والوجهة، تصبح هي نفسها الوجهة، تصبح هي الغاية من الرحلة، فتتعطل عندها الحركة. هذا ما يفعله الشعر في اللغة، يوقفها عن أن تكون أداة.
هكذا يخرب الشاعر لغة الناس. يحيلها من وسيلة شفافة، إلى تحفة، قطعة من الفن، حلوى تظل في الفم إلى الأبد ولا تذوب.
شخص مهنته تعطيل أهم أدوات البشر على الإطلاق، كيف لا ينبذه البشر؟ كيف لا يشعر هو في أعماقه بذنب يجعله ينبذ نفسه إن لم يجد من ينبذه؟
وبعيدا عن اللغة.
الشاعر أيضا عقبة في مسيرة البشر إلى التطور. من الأشياء القليلة التي يتفق عليها العلم والدين والفهم الشائع أن الإنسان ينتقل من طور إلى طور: من الطفولة إلى الصبا والشباب والرجولة وما إلى ذلك، ومن السذاجة إلى النضج إلى الحكمة إلى الخرف، وما إلى ذلك، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الزراعة إلى الصناعة، وغير ذلك من أطوار وأطوار لا بد أن يعبرها البشر أفرادا وقطعانا. هكذا يرى الناس والآلهة والعلماء، ويعترض الشاعر، يعترض إذ يلعب، يعترض إذ يديم عامدا ـ أو مرغما ـ سذاجته وطفولته. يعترض إذ ينحاز للخارجين عن القطيع الثائرين عليه، والمتخلفين عن الركب لعجز أو تعب. وجود الشاعر نفسه اعتراض. مظاهرة من شخص واحد ضد سبعة مليارات شخص. كلهم قائمون وهو مضطجع. كلهم ماضون إلى المصب وهو يبلبط في المنبع. كلهم  ينعمون بالسلام وهو يرى مجازر الحرب. كلهم يحملون السلاح وهو يغني للحب. الشاعر شريك مخالف. والشاعر لا يخالف ليعرف، أو ليظهر باختلافه، إنما يفعل ذلك ليذكِّر قطيع الأصحاء بالمرضى، ويلفت الأعين المبهورة بالضوء الساطع إلى ما تخفيه الظلال.
برغم أنفه، يختار الشاعر الكرسي المعيب، يعيره ساقه الحية بدلا من ساقه المختلة، يكمل بجسمه جسمه، يصبح هو والكرسي المخلخل شيئا واحدا، ثابتا إلى حين.
لكن من الشعراء من جلسوا على عروش. منهم من عاشوا حياتهم يدللهم الملوك ويستعبدونهم. هؤلاء الشعراء هم الذين أقول إنهم تحولوا إلى سلع. أصبحوا هم، وليس شعرهم فقط، هدف القراء. رأينا هذا ولم نزل نراه في شعراء ليسوا تافهين أو عالة على الشعر، ليسوا كذلك دائما على الأقل. بل الحقيقة أنهم في أغلب الحالات شعراء أصلاء، وصناع مهرة. رأينا ولم نزل نرى من الشعراء من لا يكونون باعة تدفعهم الأكتاف، وإنما نجوم ترفعهم الأكتاف. فهل في الوصف الوظيفي للشاعر ما يفسر هذا؟
لا أعرف. ربما أفضل إجابة هي أن كل شاعر من هؤلاء حالة تستحق الدرس والفهم وحدها. ولكن يخطر لي أن الموت، الموت نفسه، أداة من أدوات الشعر، ولا أقول من أدوات الشاعر.
قد ينعزل شاعر ليخدم فيله الأبيض، وقد يضع شاعر هودجا من حرير على ظهر فيله ويمتطيه متبخترا في حدائق القصور. لكن في الحالتين، وفي جميع الحالات، يلعب الموت لصالح الجميع.
يتدخل الموت في النهاية، ليختل توازن كرسي هنا، ويفرغ من طاووسه عرش هناك. وقليلا قليلا، على مدار السنين والقرون، يمحو الموت ما يشاء من شعر الشعراء ويثبت. ومثلما لم يبق في وثيقة بطن الكعبة الشهيرة إلا "بسمك اللهم"، تشحب في ديوان المتنبي أغلب قصائده، تأفل الأبيات التي جوزيت ذات يوم بالذهب والضِياع، وتتألق أبيات لعلها بدت هامشية شاحبة في زمانها الأول. تدب دماء الحياة في قصائد المستشفى الممتقعة، وتذبل قصائد الصراخ والفروسية وتقريع الناس، فلا يكاد يبقى من أمل دنقل مثل أوراق الغرفة 8. حدث هذا كثيرا، كثيرا. ويحدث. حدث مع المدَّاحين والهجَّائين. مع خدم الأيديولوجيات وخصومها. حدث مع بريخت، وحدث مع باوند. ويحدث.
خطر لي أن الموت حليف الشاعر، لأنه ربما العنصر الوحيد من عناصر الوجود الذي لا يستخف به. خطر لي أن البائع الذي يظهر في الإسكندرية القديمة، أو في ميدان التحرير، ليس الشاعر، وأن من يسرح بعربته في حينا صباح مساء هو الشعر، الشعر نفسه، الكنز الذي يحرسه الموت، عبر القرون، وتنبذه الحياة.
***
يسأل عماد أبو صالح:

كيف أمكنه أن يعيش
كل هذه السنين؟
كيف لم تتلف بضاعته،
رغم مرور كل هذا الزمن؟

أظن أنني أعرف إجابة، وأعول عليها.
***
آه، كنت سأنسى، اقرأوا شهادة عماد أبوصالح هنا