ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

السبت، 18 أبريل 2020

عن الرجال والحب


عن الرجال والحب

ولد الشاعر الأفروأمريكي روبرت هايدن فى عام 1913 وتوفي في عام 1980. درس فى جامعتى وِين وميشيجن. أصدر مجموعته الشعرية الأولى ونال عنها جائزة الشعر الكبرى من المهرجان الدولى للفنون الأفريقية فى داكار بالسنغال عام 1965. كان هايدن أول أمريكى أفريقى يعمل مستشارا شعريا لمكتبة الكونجرس وهو تكريم رفيع أصبح يُطلق لاحقا على من يحوزه لقب أمير شعراء أمريكا.

Robert Hayden




تلك الآحاد الشتائية
في أيام الأحد أيضا
كان أبي يستيقظ مبكرا
ويرتدي ثيابه في البرد القارس
وبعدئذ بيديه المشققتين
وقد كدَّهما العمل في طقس الأسبوع السابق
يجعل النار الخابية تتوهج.
وما كان أحد يشكره.

كنت أصحو فأسمع البرد يتشظي،
يتفتت.
وحين تصبح الغرف دافئة،
كان ينادي
وعلى مهلٍ أنهض
ألبس
مجتنبا غضبات ذلك البيت المألوفة

أتكلم معه دونما اكتراث
هو الذي طرد البرد
ولمَّع لي حذائي الجميل أيضا.
ما الذي كنت أعرفه أنا عن الحب
وأثقاله الجهمة الموحشة.
***
كتب الشاعر الأفروأمريكي روبرت هايدن أفضل أعماله في ستينيات القرن العشرين عندما كان رهط كبير من الشعراء الأفروأمريكيين، أي المنتمين عرقيا إلى سلالة هايدن، يملأون العالم صخبا نبيلا، منددين بالتفرقة العنصرية. في ذلك الوقت الصاخب، كان روبرت هايدن يرفض اعتباره ناطقا باسم سلالته، كان يصر على أنه شاعر وحسب. وهذه قصيدة لا يكتبها إلا شاعر، شاعر وحسب.
في قراءة لهذه القصيدة كتبت الشاعرة الأمريكية ماريان بوروش تقول:
"في أيام الأحد أيضا كان أبي يستيقظ مبكرا" هكذا يستهل روبرت هايدن قصيدة "تلك الآحاد الشتائية" الشهيرة، بشيء يبقى في الذاكرة. يقول الشاعر: في أيام الأحد أيضا، فيعرفنا بأمر أبيه في كل يوم من أيامه. يصغي الصبي الابن من غرفة مجاورة، وربما من حالةِ ما بين النوم والصحو لطقس أبيه اليومي في البرد القارس وهو يوقد المدفأة. وذلك في يوم الإجازة، أيضا، أي أن ذلك يحدث كل يوم، بلا انقطاع، وبلا شكر من أحد.
وكما يستهل الشاعر قصيدته ببيتين عصيين على النسيان، يختتمها بأبيات لا يمكن أن تسقطها ذاكرة: "ما الذي كنت أعرفه أنا عن الحب/وأثقاله الجهمة الموحشة". أتذكر بعد سنوات طوال، في إنديانوبوليس، والسيارة تشق طريقها عبر شوارع مكسوة بالجليد حاملة إياي وحفنة من الآخرين. ودونما سبب، تعالت تلك الكلمات. ومرة أخرى، منذ شهور قليلة تعالت تلك الكلمات مرة أخرى في مطبخ إحدى الصديقات على مبعدة ولايتين. وتبقى هذه الأبيات تتعالى دوما بلا سبب واضح".
لا أحسب إلحاح هذه الأبيات أمرا يخص ذاكرة ماريان بوروش أو روحها أو ذاتها هي فقط. أحسب أنها تعاود، كالإحساس بالذنب، كلَّ من كان عليه أن يقول شكرا ولم يقلها. ولكنها لا تعاود أمثال هؤلاء لتؤنب ضمائرهم أو لتخفف عنها، إنما هو مزيج قاسي الأثر من الاثنين.
ما الذي كنت أعرفه أنا عن الحب وأثقاله الجهمة الموحشة؟ ذلك السؤال النبيل، لا تعرف حقا من المقصود به؟ كان طفلا من طرحه، فعمن كان يتساءل؟ عن أثقال الحب الذي يكنه الأب لأبنائه، فيبكر في الصحو، ويدفئ البيت، ويلمع الأحذية، ويخرج إلى العالم في البرد القارس، ليؤمن ثمن الفحم الذي يحرقه بعد ذلك بيديه؟
أم أثقال حب الولد لأبيه، الذي سيجعله في ما يلي من العمر يكتب هذه القصيدة، عسى أن يتخلص فيها من أوجاع حبه لأبيه، حبه الذي لم يعبر عنه في حينه ولو بكلمة شكر؟
غير أن لكل من لم يشكروا محبيهم عزاء يقدمه وليم شكسبير، في ما ينقل عنه يوسف شاهين في "الاختيار": أنا الذي أحبك، إذن أنا المدين لك بكل شيء.
وعلى سيرة شكسبير. في مسرحية "الملك لير" يسأل الملك الهرم بناته، وقد قسَّم مملكته بالفعل إلى ثلاثة أقسام اعتزم أن يهب كل بنت أحدها، يسألهن أيهن أكثر حبا له من الأخريين. وينطلق لسان كل بنت بما يسعفها به الجشع، إلى أن يحين دور الصغرة، فإذا بها تقول "لا شيء". ليس لدى كورديليا ما تقوله عن حبها لأبيها. ويمضي الحوار القصير بين الأب وابنته فيقول لها "ما أصغرك" ويقول لها "وما أقسى قلبك". وتبدأ مأساة أحمق شكسبير العظيم.
أهو أحمق حقا؟ ربما كملك يكون كذلك. ربما تقسيمه المملكة في ذاته، بغض النظر عن أساس القسمة، يكفل له جدارته بصفة الحماقة. ولعله أحمق أيضا كأب، إذ نبذ إحدى بناته لأنها الأقل موهبة بين شقيقاتها في الكذب. لكن ماذا عنه كرجل؟ لنقبل أنه أحمق أيضا كرجل. لكن لا ينبغي أن ننسى أنه اشترى بمملكة، مملكة كان ملكا متوجا عليها، بضع كلمات. لم يطلب الرجل أكثر من كلمات ثمنا للنزول عن عرشه. وربما لا يطلب رجل أكثر من هذا. كلمات فقط يبذل بها نفسه وعمره وطاقته، ويعلم نفسه كيف يجد سعادته في سعادة غيره. حمقى؟ نعم، حمقى، حمقى إلى حد أن نقضي آلاف السنين من وجودنا على الأرض في محاولة لإقناع كل من حولنا بأننا في غنى عن الحنان، تغنينا عنه قوة سواعدنا، أو مدى أسلحتنا، أو حجم سلطاتنا، مرغمين كل من حولنا على تصديق ذلك، لندفع الثمن ألما كالذي شعر به لير واختزله في بضع كلمات "ما أصغرك، وما أقسى قلبك"، ألم لا ينبغي أن يظهر على وجوهنا، ألم يتجدد فينا ويتراكم علينا كلما نظرنا في عيون من حولنا فلم نر فيها ما نعلم أننا في غيابه لن نذوق طعم السعادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق