ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 31 ديسمبر 2015

هوجو موخيكا ... ذلك الوهم الذي أكتب به

ذلك الوهم الذي أكتب به


ولد الشاعر الأرجنتيني هوجو موخيكا ـ في بيونس أيرس في الأرجنتين سنة 1942، درس الفنون الجميلة والفلسفة والأنثروبولجيا الفلسفية واللاهوت. وليست هذه الدراسات وحدها هي التي تنعكس في أعماله، بل وأسفاره والتجارب التي يجنيها من كونه راهبا في دير. تحفل قصائده القصيرة بتأملات فلسفية وصوفية عميقة فيها مسحة مشرقية، فهي شعر لا تمكن قراءته مرة واحدة، بل يعيده القارئ على نفسه مرارا وتكرارا.

القصيدة التي نقدمها له هنا مأخوذة، شأن التعريف السابق به، من موقع بوينت للشعر الدولي، وهي مترجمة من الأسبانية إلى الإنجليزية بقلم: جرمين دروجنبرودت.

***

اعتراف

القصيدة، القصيدة التي أشتاق إليها

القصيدة التي أتوق إليها
هي التي يمكن أن يقرأها المرء بأعلى صوته
دون أن يسمعه أحد.
هي المحال المتاح في كل لحظةٍ
أن تبدأه
وهي ذلك الوهم الذي
به أكتب
وبه أمحو.
***
قد لا يكون هوجو موخيكا حينما كتب هذه القصيدة أكثر من شاعر يريد أن ينام مطمئنا إلى أنه في الصباح سوف يجد على طاولته ما يثبت له أنه كان موجودا بالأمس، وأن يوما لم يمض من عمره دون أن يكون نفسه، أي شاعرا. لعله ما كتبها إلا ليكتب قصيدة مهما تكن. وليس ما يحملنا على هذا الظن ـ أو سوء الظن إن شئتم ـ إلا أنها تبدو قصيدة شديدة السهولة، تقوم على مفارقة بسيطة للغاية، وربما على معنى مبتذل أيضا وهو أن الشعر سعي إلى المستحيل، وذلك معنى، على أقل تقدير،  متواتر في كثير من الشعر ولدى كثير من الشعراء من مختلف الثقافات.
لن نقف عند هذا المعنى، ولكننا نقف عند تجليه لدى هوجو  موخيكا . المحال بالنسبة لهذا الشاعر، القصيدة الحلم، الجزرة المعلقة أمام عينيه، هي قصيدة يمكن أن تقرأ بأعلى صوت فلا يسمعها أحد. وذلك طبعا محال.
يقول الإمام الغزالي في خطبة أحد كتبه:
اعلم أن لكل صناعة أهلا يعرف قدرها ومن أهدى نفائس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها وهذا عِلْق نفيس مضنون به على غير أهله فمن صانه عمن لا يعرف قدره فقد قضى حقه.
ذلك ما يقوله الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "المضنون به على غير أهله" والعِلق بحسب لسان العرب هو النفيس من كل شيء. وكتاب الغزالي هذا يتضمن ثلاثة أركان الركن الأول في معرفة الربوبية، والركن الثاني في معرفة الملائكة، والركن الثالث في حقائق المعجزات. ولنا أن نتخيل لماذا ضن به مؤلفه إلا على من هم أهل له.
ولكن الغزالي، على الأقل، رأى أن لعلقه هذا من هو أهل له، بل إن الكتاب كله مهدى من الإمام إلى صديق له، يقول الغزالي:
"أكرمت بهذا العلق على سبيل التهادي أخي وعزيزي أحمد صانه الله عن الركون إلى دار الغرور وأهَّله لمعرفة بعض حقائق الأشياء".
هو على الأقل جعل كتابه لأحد، وإن يكن مجرد أحمد يُدعى له بأن يكون أهلا لمعرفة "بعض" الأشياء. أما هوجو  موخيكا فيضن على الجميع. يريد أن يتكلم فلا يسمعه أحد. بل أن يكتب قصيدة لا تدركها الأسماع.
تراه يريد هذه القصيدة لنفسه، أم لكل من تقع عليها عيناه؟ ليس في القصيدة ما يساعدنا على الاقتراب من هذا السؤال إلا عنوانها: اعتراف. نحن إذن موجودون بالنسبة  لموخيكا، بل موجودون إلى الحد الذي يجعله يعترف أمامنا. لسنا قليلي الشأن إذن. لقد كان بوسعه أن يعنون قصيدته هذه بـ إعلان، أو بـ بلاغ للناس. ويكون قد أوصل إلينا الرسالة كاملة. ولكنه استخدم هذه الكلمة بالذات، الاعتراف، لكي لا يكشف بها فقط عن إيمانه بوجودنا، بل ليكشف أيضا عن شعور بالذنب. إنه يعترف بوجودنا، وبضيقه من هذا الوجود. يعترف أننا سنظل ـ إلى أن يتحقق له المحال ـ نستهلك قصائده، ونستعملها في أغراضنا الخاصة. بل سنظل نكتبها، ونُنْطقها بما في أنفسنا نحن.
حتى أن أحدا قد يتناول "اعتراف" هذه، ويستشهد ببيت فيها وهو في معرض الوعظ أو النصح، وهو واقف أمام تلاميذه مثلا في طابور الصباح يحثهم على الاجتهاد في التحصيل مؤكدا لهم أن المحال متاح كل لحظة أن نبدأه. أليس هذا شيئا يمكن أن نقوّله للقصيدة؟
ألا يحق للشاعر إذن في ضوء احتمال إساءة الاستعمال الوارد طول الوقت أن يحلم بقصيدة يتغنى بها وقتما يشاء، ولكن لنفسه، لنفسه دون كل الأنفس، فتبقى مصونة عن الناس، مضنونا بها على غير أهلها؟
وترى كم قصيدة لا يمكن أن يسمعها أحد تلقى ليل نهار على مقربة منا؟ ومن يدري إن لم تكن كل قصيدة نقرؤها، ونسمعها، ونعجب بجمالها، هي مجرد محاولة فاشلة؟


الخميس، 24 ديسمبر 2015

ذي شان ساحل ... للبيت أربعة جدران .. وللسجن أيضا

للبيت أربعة جدران .. وللسجن أيضا

Zeeshan Sahil



ولد الشاعر الباكستاني ذي شان ساحل في الخامس عشر من ديسمبر سنة 1961 في حيدر أباد بالسند. هو واحد من أهم الشعراء الذين بدأوا كتابة شعر النثر في باكستان. أصدر خلال حياته ثماني مجموعات شعرية بالأردية، جمعت كلها في مجلد واحد في عام 2011، بعد نحو ثلاث سنوات من وفاته في الثاني عشر من ابريل سنة 2008.
القصيدة التي نقدمها له هنا مأخوذة من كتاب صدر له باللغة الإنجليزية بعنوان "أشياء خفيفة وثقيلة"، والقصيدة ترجمت من الأردية إلى الإنجليزية بتعاون بين فيصل صديقي وكرستوفر كينيدي ومي ديتمار ونشرتها مجلة جورنيكا في مارس 2013.
***
أربعة جدران
لك أن تسميه بيتا
ذلك المكان الذي نعيش فيه.
غرفة عالية جدا
ذات سقف منخفض جدا
شباك واحد، كبير بعض الشيء
وباب واحد بالغ الصغر
يمكنك أن تعبره
وذراعاك مطويان على صدرك
وقدماك
لا ترتفعان مطلقا عن الأرض.
يمكن أيضا أن تطل من هذا الشباك
شباكِ الغرفة العالية جدا
ذات السقف المنخفض جدا
إذا شئت،
ويمكنك أن تنام
لكن بدون أن تفرد ساقيك
ويمكنك أن تعيش
لكن بدون أن ترفع رأسك.
***
ربما كان الإنسان الأول يسير في فجر الزمان على أرض كوكبنا هذا وهو يحاذر الدواب ما صغر منها ودق، وما كبر منها حتى تعملق. ربما كان يجري حذر الموت تحت قدمي ديناصور غافل عنه غفلة جنود النبي سليمان لاحقا عن النمل من تحت أقدامهم. ربما كان لا يأمن جوارح الطيور التي برع في آخر الزمان "ستيفن سبيلبرج" في تصويرها. ربما كان الإنسان الأول ضعيفا مهددا من الطبيعة كلها، ولعل ذلك الخوف كان ضرورة، فقد تعلم أجدادنا الأوائل أولئك أنهم بحاجة إلى التكتل في مواجهة عدوان الطبيعة الجامحة، وليس ذلك فقط طلبا للأمن، بل طلبا للانتصار، لاغتنام المستقبل، لتجاوز الطبيعة في سباق يفرضونه عليها فرضا، ولا تملك هي فيه إلا أن تنهزم. سباق الأفكار. كان خوف أجدادنا الأوائل نعمة عليهم، تعلموا منها أن البقاء على الأرض لا يمكن أن يتم لهم ما لم يضيفوا إضافة ملموسة تبرَّر لهم امتلاك هذا الكوكب. كان الخوف إذن أول الطريق إلى الحضارة. أو هكذا نظن.
لم يكن البشر إذن ـ فيما نتصور ـ مشكلة بعضهم البعض. كان بوسع أي إنسان أن يلوذ بكهف فلا يحذر أن يجد فيه إنسانا مثله، إنما كان الخوف أيامها ممن ليسوا ببشر. أما البشر، فكيف يخشون بعضهم بعضا وهم جميعا في خندق واحد؟ كان يمكن إذن لكهف أن يتسع لاثنين ليست بينهما معرفة مسبقة، أو ربما ثلاثة، أو ربما أكثر من ذلك بكثير. فمنهم من ينامون، ومنهم من يسهرون للحراسة، أو للرسم على الجدران. نعم، كانت لكهوف ذلك الزمان جدرانها، ولكنها في الأغلب ثلاثة فقط.
وبمرور الوقت صار لا بد من جدار رابع، يجعل من الكهف بيتا، أو سجنا. لا يمكن لأحد الآن أن يعيش في أقل من أربعة جدران. لا يمكن أن يبدأ أحد حياته بأقل من ذلك. ثلاثة جدران الآن لا تعني إلا التشرد، وذلك بحد ذاته منتَج ثانوي من منتجات الحضارة. تلك الجدران الأربعة هي التي كانت وراء الأزمة الاقتصادية التي أوجعت الولايات المتحدة قبل سنوات. عشرات آلاف الحالمين بأربعة جدران اقترضوا من البنوك ليؤمِّنوا الجدران الأربعة، تساهلت البنوك في منح القروض، وأقيمت بيوت وبيعت، وفجأة اختل مسمار، أو انكسر ترس، وانفقأت الفقاعة في وجوه الجميع.
***
لم يكن جدارا وحسب هو الذي أضافته الحضارة البشرية، فذلك الجدار بالذات جعل بعض البشر مشكلة بعضهم الآخر. وبدلا من تعاضد الماضي السحيق، صار من البشر من يملكون قصورا قد لا يجدون الوقت الكافي للمرور عليها، ناهيكم عن الإقامة فيها، ومن يعيشون في غرفة عالية جدا، ذات سقف منخفض جدا، يمكنك أن تعيش فيها، ولكنها حياة لا يمكنك فيها أن ترفع رأسك.
ومن القصائد ما يكون الاكتفاء بالإعجاب به عارا. ربما "الواجب" بعد أن نقرأ قصيدة كهذه أن نشعر أن علينا أن نفعل شيئا. ليس ضروريا أن يكون ذلك الشيء واضحا لنا، أو واحدا نكرره جميعا. لكن ينبغي، في تصوري، أن نفعل شيئا. يمكن مثلا أن لا ننهر أطفالنا حين نراهم بأصابع لم تزل بريئة براءة أصابع الإنسان الأول يشوهون الجدران بألوانهم، فسيكون لدى الجدران من الوقت ما يكفيها لتشوههم في المقابل.

الخميس، 17 ديسمبر 2015

لي يانج ليي ... احك يا شهريار

احك يا شهريار
Li-Young Lee



يمكن من قبيل التسهيل على أنفسنا وعليكم أن نقول إن "لي يانج ليي" شاعر أمريكي. أما إذا اخترنا الصعب، فهو مولود عام 1957 في جاكرتا، وهذه في إندونيسيا، لأبوين صينيين. فأبوه كان طبيبا خاصا لماوتسي تونج في الصين، ثم استقر بأسرته في اندونيسيا، ثم هرب بالأسرة من اندونيسيا إلى هونج كونج وماكاو واليابان ثم الولايات المتحدة.
ولكن ما الجنسية الموجودة في جواز سفره؟ لا نعرف بالضبط، ولكننا نحسبه أمريكي الجنسية. وهو على أية حال يكتب بالإنجليزية. درس في جامعة بيتسبرج وأرزيونا ونيويورك، ودرَّس في العديد من الجامعات الأمريكية. صدر له عام 2008 ديوان "خلف عينيّ" و"كتاب الليالي" عام 2001 وهذا الديوان فاز بجائزة وليم كارلوس ويليامز المرموقة. أما القصيدة التالية فمن كتابه "المدينة التي أحبك فيها".
***
قصة
مسكينٌ ذلك الذي تُطلب منه قصةٌ
فيعجز أن يأتي بواحدة.

وفي حجره ابنه ذو السنوات الخمسة
ينتظر.
ليست القصة نفسها يا بابا. واحدة جديدة.
فيحكّ الرجل ذقنه، ويدعك أذنه.

أفي غرفة مليئة بالكتبِ
في عالمٍ مليء بالقصص،
يعجز أن يتذكر قصة؟
سرعان ـ هكذا يفكر ـ ما سيملُّ الصبي أباه.


الرجل انتقل بالفعل إلى بعيد في المستقبل
إنه يرى يوم يذهب الصبي. لا تذهب!
تعال اسمع قصة التمساح. قصة الملاك مرة أخرى!
طيب، أنت تحب قصة العنكبوت.
العنكبوت الذي جعلك تضحك.
تعال وأحكيها لك.

ولكن الصبي يحزم قمصانه،
إنه يبحث عن مفاتيحه. من تظن نفسك
يصيح الرجل، لأجلس أبكم في حضرتك؟
ومن تظنني أنا فترفض أن يليق بي الفشل؟

ولكن الولد هنا. أرجوك يا بابا. قصة.
عاطفية أكثر منها منطقية هذه المعادلة،
وأرضية لا سماوية،
معادلة تقول إن توسلات الابن
مع زيادة حب الأب
تساوي الصمت التام.
***
يقال إن من أكثر الناس عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر، أولئك الذين يكثرون من أحلام اليقظة، فينسجون عوالم موازية لعالمهم الواقعي المفترض، يشبعون بها نقصا يعانونه في دنياهم، وإذا بهم في آخر العمر وقد عجزت عقولهم عن التمييز بين ما كان معيشا في الواقع، وما كان معيشا في الخيال، وإذا بهم عجائز مخرفون، أو لنقل مصابون بمرض ألزهايمر.
صاحبنا في هذه القصيدة ليس من هؤلاء. فهو لا يقيم عالما موازيا ليستمتع به، بل يقيمه من فرط خوفه، أو هو العالم يقام أمام عينيه من تلقاء خوفه، صاحبنا يستعجل غده، ويستعجل أسوأ غد يمكن له أن يتصوره. يستعجل اليوم الذي يقرر فيه ولده أن يتركه، فيحزم حقيبته ويرحل، لا لأن الولد نضج وصار عليه أن يقيم عالمه في الواقع، بل لأن أباه لم يعد صالحا لإمداده بالحكايات.
يحسب هذا الأب المحب أن اللحظة التي سيستقل فيها ولده عنه، لن تكون إلا نتيجة لفشله في أن يحكي له قصة جديدة عندما كان ابن خمس سنين. ولعله محق في تخوفه هذا، فمن منا يدري أي أفعاله جميعا سيخلد في ذاكراة أولاده دون غيره؟ من يدري ما الذي يستبقيه الإنسان من طفولته لشبابه ورجولته وربما شيخوخته؟ كل ما نعرفه ونثق فيه هو قول الشاعر الإنجليزي القديم إن الطفل أبو الرجل.
***
لن تكون هذه أول مرة تنفرد القصة بالبطولة على الطريقة الأمريكية، فطالما كانت القصة بطلا منقذا، وفي الأثر أن ثلاثة كانوا في كهف سدّته عليهم صخرة، فحكى كل منهم قصة خير فعله، فانزاحت الصخرة، وفي تراث الآيرلنديين الشعبيين حكاية ملك تاه في طريق، حتى إذا أنهكه الجوع حل ببيت فيه رجل وامرأته فسألهما طعاما فأشاروا إلى جذع خشب بينهما وقالوا: بيننا وبين أن يصير الخشب طعاما أن تحكى ثلاث قصص صادقة.
غير أن مشكلة الأب في القصيدة أصعب. فهو ليس مطالبا بأن يحكي قصة خير قام به، أو أن يحكي قصة على أن يصدق الحكي، إنه مطالب بالجديد، والجميل، والممتع، وتلك ورطة ربما لا يعرفها أحد مثلما يعرفها كتّاب القصة، لولا أن جمهور هؤلاء قد يتحرجون أن يشيحوا بأبصارهم كما قد يفعل طفل حين لا تعجبه حكاية. كل ما هنالك أنهم يمتنعون عن شراء قصصهم، فيبقى الخشب خشبا لا طعاما.
وعندنا في النهاية معادلة يمكن أن نتأملها: لهفة الابن وتوسلاته + حب الأب الجارف = الصمت التام. 
لتغيير هذا المنتج، لإضافة بداية ووسط ونهاية بدلا من الصمت، لا بد من تغيير في المدخلات، في طرف المعادلة الأيمن: لهفة أقل من الولد مثلا، حب أقل من الأب، أو لنقل شيء من البرود يجعل التأليف ممكنا.


الخميس، 10 ديسمبر 2015

كبير ...الفئران بحارة والقطط زوارق

الفئران بحارة والقطط زوارق
برغم  قلة المعلومات المتوفرة عن حياة الصوفي والشاعر الهندي "كبير"، إلا أنه يعتقد أنه ولد بالقرب من بيناريس  (المعروفة حاليا بـ فاراناسي ) وأنه عاش في القرن الخامس عشر للميلاد، ونشأ في عائلة من النساجين المسلمين، إلى أن صار من أتباع الزاهد الهندوسي رامانادا، فهو إذن صوفي مسلم، وقديس من قديسي طائفة البراهما أيضا.

أهم ما صدر لكبير باللغة الإنجليزية كتاب عنوانه "مائة قصيدة لكبير" وقد ترجمها إلى الإنجلزية رابندرانت  طاغور وإيفيلين أوندرهل،  وكتاب "كبير: قصائد النشوة" الذي ترجمه الأمريكي روبرت بلاي.

غير أن القصيدة التي نقدمها هنا مأخوذة من غير هذين الكتابين. هي من مجموعة قصائد نشرت في عدد مارس 2011 من مجلة "شعر" الأمريكية بترجمة أرفيند كرشنا مهروترا. 
***
كيف
يسأل رئيس الشرطة:
كيف تحرس مدينةً
محلاتُ الجزارةِ فيها
تحرسها النسور،
والثيران فيها ولود
والأبقار عقيم
والعجول تحلب
ثلاث مرات كل يوم،
مدينة فيها
الفئران بحارة
والقطط زوارق
والفئران تجدّف
والضفادع تحتفظ بالثعابين
وكلاب الحراسة
وأبناءُ آوى
تطارد الأسود؟

فهل يعرف أحد
عن أي شيء أتكلم؟
هكذا يقول كبير.
***
من المؤكد أن أذواق الناس تختلف. ففي قصيدة كهذه قد يبتسم الكثيرون لتصور كلب يطارد أسدا، أو ثور على وشك الولادة، أو عجل صغير يُحْلَب بدلا من أن يجد غذاءه في ضرع أمه البقرة؟ ولكنا لسنا متأكدين أن جملة مثل "ثلاث مرات يوميا" فيها طرافة قد تدفع أحدا إلى الابتسام. برغم ذلك، بدت لنا هذه الجملة كذلك. يقول كبير: "والعجول تحلب/ثلاث مرات كل يوم". كان يكفيه بالفعل أن يقول إن العجول تحلب، ويكون بذلك قد أضاف غريبة إلى الغرائب التي يسردها في قصيدته على لسان رئيس الشرطة. ولكنه أبى إلا أن يحدِّد عدد مرات حلب العجول كل يوم. ذلك بالضبط كأن تسأل أحدهم عن عنوان بيته فيقول لك إنه ساكن في جهنم، ثم يتبع ذلك بأن يخرج لك من جيبه بطاقة تقرأ فيها مثلا 23 ش الكفار متفرع من ميدان إبليس.
***
القصيدة التي تبدأ بسؤال من رئيس الشرطة، تنتهي بسؤال من الشاعر؟ الأول يسأل: كيف تمكن حراسة مدينة انقلبت فيها الموازين؟ وهو سؤال صعب ويجب أن يطرحه رئيس الشرطة فعلا. لنتخلص مؤقتا من البسمة التي لا بد أن تكون مرتسمة على وجوهنا تشفِّيا في حيرة رئيس الشرطة. ولنتأمل بالفعل هذه المدينة: إن الكلاب فيها تطارد الأسود، والأبقار لا تلد بينما الثيران هي التي تتولى عنها هذه المهمة؟ حينما تكون أنت رئيس شرطة هذه المدينة، ألن يدور في ذهنك سؤال عما آل إيه السارق والمسروق؟ اللص والضحية؟ المواطن والحرامي؟ من أصبح ماذا؟ وكيف لرئيس الشرطة ورجاله ـ المساكين مؤقتا ـ أن يقيموا العدل في المدينة، باعتبار أن هذه مهمهتم؟
هل في مدينة انقلبت فيها الآيات بهذه الطريقة يصبح عدم حراسة المدينة هو حراسة المدينة؟ هل يكون هذا هو الجواب للسؤال المطروح من رئيس الشرطة؟
***
هل يعرف أحد عن أي شيء أتكلم؟ هكذا يقول كبير.
يبدو أننا بمجرد أن نتجاوز الخليج العربي إلى شاطئه الشرقي حتى نرى هذه العادة لدى الشعراء لا سيما القدماء منهم. نعني عادة التوقيع بأسمائهم في نهايات القصائد. ذلك ما نجده مثلا عند شاعري شيراز، سعدي وحافظ، وما نصادفه في هذه القصيدة لكبير. فمن يدين لمن؟ شعراء فارس لشعراء الهند أم العكس؟
السؤال الأهم بالنسبة لنا ليس هذا، بل سؤال كبير نفسه: هل يعرف أحد عن أي شيء أتكلم؟ نعم، أو هكذا نتمنى. يبدو أنك يا جدنا كبير تتكلم عن العالم وقد جن جنونه، وانقلبت معاييره. ولكن السؤال الذي نطرحه نحن: هل الأمر قديم إلى هذه الدرجة؟ إننا ننظر حولنا فنجد العالم وقد جن جنونه فعلا. ألا نرى حينما نمعن النظر أن حكام العالم الحقيقيين هم تجاره؟ أليس هذا غريبا بعض الشيء؟ ألا تدفع الشعوب، كل الشعوب، رواتب لأفراد منها فلا يكون هؤلاء الأفراد عمالا لديهم، بل عمالا عليهم؟ أليست هذه، بمجرد النظر، آيات مقلوبة؟
ولكننا نقرأ قصيدة كبير فنجد أن الفأر يركب القط منذ زمن بعيد، منذ القرن الخامس عشر على الأقل. كيف بعد مرور كل هذا الوقت لم نقبل أن هذه هي الحالة الطبيعية للوجود؟

كيف لم يدر ببالنا ولو للحظة أن طلوع الشمس من المشرق هو الخطأ، وأن طلوعها المنتظر من المغرب، هو الذي سيعيد العالم إلى صوابه، ويعيد كل شيء إلى نصابه؟


الخميس، 3 ديسمبر 2015

زبجينيو هربرت ... تفاحة ثالثة

تفاحة ثالثة
zbigniew herbert

في مقال له عن الشاعر البولندي زبجينيو هربرت، كتب الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك يقول إن زبجينيو هربرت ـ المولود في لُوَاو عام1924 والمتوفى في وارسو عام 1998 ـ كان واحدا من أعظم الشعراء في زماننا. قد يكون مواطناه تشيسلاف مييوش وفيسوافا شمبورسكا ـ اللذان حصلا في السنوات الأخيرة على جائزة نوبل ـ أشهر منه، ولكن من المؤكد أنه ينتمي وإياهما إلى فئة واحدة. كان هربرت هو الأكثر أصالة بين الثلاثة والأكثر طرافة أيضا. فلم يكن إلا لمزيج من الجدية والكوميديا أن يستوعب تجربته التي تتابعت عليها أهوال الحرب، والشمولية، والنفي.
***
شبَّاك
نظرت فجرا من الشباك،
فرأيت شجرةَ تفاحٍ شابةً
شبهَ شفافةٍ وبراقة.

وحين نظرت عند الفجر من جديد
كانت شجرة تفاح محملةٌ بالثمار واقفةً هناك.

لعل سنين كثيرة مضت
ولكنني لا أتذكر شيئا
مما جرى في نومي.
***
سفينكس مخلوقة أسطورية هي ابنة توفون وإخيدا، كان الإغريق والمصريون يصوِّرونها وحشا له رأس امرأة وصدرها، وجسد أسد، وقد أرسلتها هيرا، إحدى ربات الإغريق، لمعاقبة طيبة بسبب شهوة الملك لايوس الخارقة، فأقامت فوق مرتفع بالقرب من المدينة وألحقت بالشعب أضرارا لا تحصى، دون أن ترحم صغيرا أو كبيرا، ولم يكن من سبيل للقضاء عليها إلا بحل لغز تقوم هي بتلاوته على كل من يلقي به حظه العاثر في طريقها.
وحاول أوديبوس، أو أوديب، أن يقهر الوحش، ليفوز بجائزة أعلنها ملك طيبة، كريون، وهي أن يزوج من يقهر سفينكس بشقيقته.
سفينكس سألت أوديبوس السؤال الشهير عن حيوان يسير في الصباح على أربع وفي الظهيرة على اثنتين وفي المساء على ثلاث، فأجابها بأنه الإنسان في أطوار الطفولة والنضج والشيخوخة، يحبو على أربع ثم يسير مستقرا على ساقيه ثم يتكئ على عصاه في شيخوخته.
فهل زبيجينيو هربرت هو سفينكس من نوع ما؟ وهل قارئ هذه القصيدة هو أوديب؟ وهل القصيدة اللغز؟ وهل الحل هو أن شجرة التفاح معادل جديد للإنسان؟
***
ليس الشعر لغزا، وإن بدا الشعر الحديث للكثيرين مبهما ملغزا لا يهدف الإمتاع والمؤانسة. ولكن كثيرا من القصائد الحديثة تبدو للوهلة الأولى مغلقة، مغلفة بغموض على القارئ أن يجد سبيله عبره، وعليه أن يعبره طبقة إثر أخرى مستعينا على ذلك بمخزونه المعرفي. ولعل هذا الدخول هو المتعة الكبرى التي يقدمها الشعر الحديث لقارئه.
شجرة التفاح هنا لا تبدو معادلا أكيدا للإنسان في أطواره المختلفة، هي على الأقل ليست مطابقة للإنسان في طفولته ونضجه وشيخوخته شأن الحيوان في لغز سفينكس. ولكن الشاعر يقدمها في ثلاثة مشاهد: فهي في المشهد الأول شجرة شابة براقة شبه شفافة، فكأنها الإنسان في براءته الأولى، وهي في المشهد الثاني محمَّلة بالثمار فكأنها الإنسان في نضجه، ثم إذا هي في المشهد الثالث بعد سنين كثيرة، غائبة، والإنسان هو الحاضر، ولكنه عاجز عن تذكر شيء مما جرى في نومه. وتلك الإضافة الأخيرة تبدو ربما بلا معنى، فمن البديهي أن أحدا لا يعرف أساسا بما يحدث في نومه ناهيكم عن أن يعرفه ثم يتذكره. ولكن نفي الشاعر لشيء منفي أصلا جدير بلفت أنظارنا.
قد تبدو سذاجة لغز سفينكس أحب إلينا من هذا الغموض الذي يحيط بقصيدة هربرت. ولكن ذلك الغموض أصدق من تلك البساطة. فالحياة البشرية أبعد ما تكون عن ذلك الوضوح الطفولي المزعوم.
في هذه القصيدة نقلة بعد المشهدين، مشهد الشفافية ومشهد الإثمار، نقلة يتبدل بعدها النمط المتبع قبل ذلك مرة تلو مرة. فإذا كان المشهد الأول والثاني يقدمان الشاعر راصدا للعالم خارج شباكه، فالمشهد الأخير يقدم الشاعر متأملا للاشيء. لقد حدث شيء ما بينما الشاعر نائم، بينما هو في غفلة ما بعد النضج، فصحا الشاعر على عالم لم يعد فيه لشجرة التفاح وجود. وإذا كان الإثمار قد أفقدها البراءة والشفافية من قبل، فما الذي حدث وجعلها تفقد الوجود نفسه؟ أهذا ما يفعله النوم؟ أهذا ما تؤدي إليه غفلة المرء عن شجرته، وانشغاله بثمارها عنها؟ أهذه القصيدة إنذار للإنسان بأنه ربما يستيقظ ذات يوم على عالم لم يعد هو نفسه موجودا فيه؟
***
ولماذا شجرة التفاح بالذات؟ بعد تفاحة آدم وحواء، تفاحة الغواية والمعرفة الأولى، تفاحة الخروج من الجنة إلى الأرض؟ وبعد تفاحة الجاذبية، تفاحة القانون الذي اكتشفناه لنكتشف تلك القوة الخفية ونعرف إلى أي شيء توثقنا؟