ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 31 ديسمبر 2015

هوجو موخيكا ... ذلك الوهم الذي أكتب به

ذلك الوهم الذي أكتب به


ولد الشاعر الأرجنتيني هوجو موخيكا ـ في بيونس أيرس في الأرجنتين سنة 1942، درس الفنون الجميلة والفلسفة والأنثروبولجيا الفلسفية واللاهوت. وليست هذه الدراسات وحدها هي التي تنعكس في أعماله، بل وأسفاره والتجارب التي يجنيها من كونه راهبا في دير. تحفل قصائده القصيرة بتأملات فلسفية وصوفية عميقة فيها مسحة مشرقية، فهي شعر لا تمكن قراءته مرة واحدة، بل يعيده القارئ على نفسه مرارا وتكرارا.

القصيدة التي نقدمها له هنا مأخوذة، شأن التعريف السابق به، من موقع بوينت للشعر الدولي، وهي مترجمة من الأسبانية إلى الإنجليزية بقلم: جرمين دروجنبرودت.

***

اعتراف

القصيدة، القصيدة التي أشتاق إليها

القصيدة التي أتوق إليها
هي التي يمكن أن يقرأها المرء بأعلى صوته
دون أن يسمعه أحد.
هي المحال المتاح في كل لحظةٍ
أن تبدأه
وهي ذلك الوهم الذي
به أكتب
وبه أمحو.
***
قد لا يكون هوجو موخيكا حينما كتب هذه القصيدة أكثر من شاعر يريد أن ينام مطمئنا إلى أنه في الصباح سوف يجد على طاولته ما يثبت له أنه كان موجودا بالأمس، وأن يوما لم يمض من عمره دون أن يكون نفسه، أي شاعرا. لعله ما كتبها إلا ليكتب قصيدة مهما تكن. وليس ما يحملنا على هذا الظن ـ أو سوء الظن إن شئتم ـ إلا أنها تبدو قصيدة شديدة السهولة، تقوم على مفارقة بسيطة للغاية، وربما على معنى مبتذل أيضا وهو أن الشعر سعي إلى المستحيل، وذلك معنى، على أقل تقدير،  متواتر في كثير من الشعر ولدى كثير من الشعراء من مختلف الثقافات.
لن نقف عند هذا المعنى، ولكننا نقف عند تجليه لدى هوجو  موخيكا . المحال بالنسبة لهذا الشاعر، القصيدة الحلم، الجزرة المعلقة أمام عينيه، هي قصيدة يمكن أن تقرأ بأعلى صوت فلا يسمعها أحد. وذلك طبعا محال.
يقول الإمام الغزالي في خطبة أحد كتبه:
اعلم أن لكل صناعة أهلا يعرف قدرها ومن أهدى نفائس صناعة إلى غير أربابها فقد ظلمها وهذا عِلْق نفيس مضنون به على غير أهله فمن صانه عمن لا يعرف قدره فقد قضى حقه.
ذلك ما يقوله الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "المضنون به على غير أهله" والعِلق بحسب لسان العرب هو النفيس من كل شيء. وكتاب الغزالي هذا يتضمن ثلاثة أركان الركن الأول في معرفة الربوبية، والركن الثاني في معرفة الملائكة، والركن الثالث في حقائق المعجزات. ولنا أن نتخيل لماذا ضن به مؤلفه إلا على من هم أهل له.
ولكن الغزالي، على الأقل، رأى أن لعلقه هذا من هو أهل له، بل إن الكتاب كله مهدى من الإمام إلى صديق له، يقول الغزالي:
"أكرمت بهذا العلق على سبيل التهادي أخي وعزيزي أحمد صانه الله عن الركون إلى دار الغرور وأهَّله لمعرفة بعض حقائق الأشياء".
هو على الأقل جعل كتابه لأحد، وإن يكن مجرد أحمد يُدعى له بأن يكون أهلا لمعرفة "بعض" الأشياء. أما هوجو  موخيكا فيضن على الجميع. يريد أن يتكلم فلا يسمعه أحد. بل أن يكتب قصيدة لا تدركها الأسماع.
تراه يريد هذه القصيدة لنفسه، أم لكل من تقع عليها عيناه؟ ليس في القصيدة ما يساعدنا على الاقتراب من هذا السؤال إلا عنوانها: اعتراف. نحن إذن موجودون بالنسبة  لموخيكا، بل موجودون إلى الحد الذي يجعله يعترف أمامنا. لسنا قليلي الشأن إذن. لقد كان بوسعه أن يعنون قصيدته هذه بـ إعلان، أو بـ بلاغ للناس. ويكون قد أوصل إلينا الرسالة كاملة. ولكنه استخدم هذه الكلمة بالذات، الاعتراف، لكي لا يكشف بها فقط عن إيمانه بوجودنا، بل ليكشف أيضا عن شعور بالذنب. إنه يعترف بوجودنا، وبضيقه من هذا الوجود. يعترف أننا سنظل ـ إلى أن يتحقق له المحال ـ نستهلك قصائده، ونستعملها في أغراضنا الخاصة. بل سنظل نكتبها، ونُنْطقها بما في أنفسنا نحن.
حتى أن أحدا قد يتناول "اعتراف" هذه، ويستشهد ببيت فيها وهو في معرض الوعظ أو النصح، وهو واقف أمام تلاميذه مثلا في طابور الصباح يحثهم على الاجتهاد في التحصيل مؤكدا لهم أن المحال متاح كل لحظة أن نبدأه. أليس هذا شيئا يمكن أن نقوّله للقصيدة؟
ألا يحق للشاعر إذن في ضوء احتمال إساءة الاستعمال الوارد طول الوقت أن يحلم بقصيدة يتغنى بها وقتما يشاء، ولكن لنفسه، لنفسه دون كل الأنفس، فتبقى مصونة عن الناس، مضنونا بها على غير أهلها؟
وترى كم قصيدة لا يمكن أن يسمعها أحد تلقى ليل نهار على مقربة منا؟ ومن يدري إن لم تكن كل قصيدة نقرؤها، ونسمعها، ونعجب بجمالها، هي مجرد محاولة فاشلة؟


هناك تعليقان (2):

  1. المدخل التقديم الصقيدة ع سهولتها وعذوبتها واسرارها المخفيه بين ثناياها والتفسير والخاتمة كلها تتسابق لتكون الاروع..الاروع فقط

    ردحذف
  2. جميل. استمعت للبرنامج الإذاعي الذي هذا نصه.
    فقط إضافة بسيطة وهي أن نطق نسب الشاعر بالإسبانية هو موخيكا.
    تحياتي.

    ردحذف