ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 3 ديسمبر 2015

زبجينيو هربرت ... تفاحة ثالثة

تفاحة ثالثة
zbigniew herbert

في مقال له عن الشاعر البولندي زبجينيو هربرت، كتب الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك يقول إن زبجينيو هربرت ـ المولود في لُوَاو عام1924 والمتوفى في وارسو عام 1998 ـ كان واحدا من أعظم الشعراء في زماننا. قد يكون مواطناه تشيسلاف مييوش وفيسوافا شمبورسكا ـ اللذان حصلا في السنوات الأخيرة على جائزة نوبل ـ أشهر منه، ولكن من المؤكد أنه ينتمي وإياهما إلى فئة واحدة. كان هربرت هو الأكثر أصالة بين الثلاثة والأكثر طرافة أيضا. فلم يكن إلا لمزيج من الجدية والكوميديا أن يستوعب تجربته التي تتابعت عليها أهوال الحرب، والشمولية، والنفي.
***
شبَّاك
نظرت فجرا من الشباك،
فرأيت شجرةَ تفاحٍ شابةً
شبهَ شفافةٍ وبراقة.

وحين نظرت عند الفجر من جديد
كانت شجرة تفاح محملةٌ بالثمار واقفةً هناك.

لعل سنين كثيرة مضت
ولكنني لا أتذكر شيئا
مما جرى في نومي.
***
سفينكس مخلوقة أسطورية هي ابنة توفون وإخيدا، كان الإغريق والمصريون يصوِّرونها وحشا له رأس امرأة وصدرها، وجسد أسد، وقد أرسلتها هيرا، إحدى ربات الإغريق، لمعاقبة طيبة بسبب شهوة الملك لايوس الخارقة، فأقامت فوق مرتفع بالقرب من المدينة وألحقت بالشعب أضرارا لا تحصى، دون أن ترحم صغيرا أو كبيرا، ولم يكن من سبيل للقضاء عليها إلا بحل لغز تقوم هي بتلاوته على كل من يلقي به حظه العاثر في طريقها.
وحاول أوديبوس، أو أوديب، أن يقهر الوحش، ليفوز بجائزة أعلنها ملك طيبة، كريون، وهي أن يزوج من يقهر سفينكس بشقيقته.
سفينكس سألت أوديبوس السؤال الشهير عن حيوان يسير في الصباح على أربع وفي الظهيرة على اثنتين وفي المساء على ثلاث، فأجابها بأنه الإنسان في أطوار الطفولة والنضج والشيخوخة، يحبو على أربع ثم يسير مستقرا على ساقيه ثم يتكئ على عصاه في شيخوخته.
فهل زبيجينيو هربرت هو سفينكس من نوع ما؟ وهل قارئ هذه القصيدة هو أوديب؟ وهل القصيدة اللغز؟ وهل الحل هو أن شجرة التفاح معادل جديد للإنسان؟
***
ليس الشعر لغزا، وإن بدا الشعر الحديث للكثيرين مبهما ملغزا لا يهدف الإمتاع والمؤانسة. ولكن كثيرا من القصائد الحديثة تبدو للوهلة الأولى مغلقة، مغلفة بغموض على القارئ أن يجد سبيله عبره، وعليه أن يعبره طبقة إثر أخرى مستعينا على ذلك بمخزونه المعرفي. ولعل هذا الدخول هو المتعة الكبرى التي يقدمها الشعر الحديث لقارئه.
شجرة التفاح هنا لا تبدو معادلا أكيدا للإنسان في أطواره المختلفة، هي على الأقل ليست مطابقة للإنسان في طفولته ونضجه وشيخوخته شأن الحيوان في لغز سفينكس. ولكن الشاعر يقدمها في ثلاثة مشاهد: فهي في المشهد الأول شجرة شابة براقة شبه شفافة، فكأنها الإنسان في براءته الأولى، وهي في المشهد الثاني محمَّلة بالثمار فكأنها الإنسان في نضجه، ثم إذا هي في المشهد الثالث بعد سنين كثيرة، غائبة، والإنسان هو الحاضر، ولكنه عاجز عن تذكر شيء مما جرى في نومه. وتلك الإضافة الأخيرة تبدو ربما بلا معنى، فمن البديهي أن أحدا لا يعرف أساسا بما يحدث في نومه ناهيكم عن أن يعرفه ثم يتذكره. ولكن نفي الشاعر لشيء منفي أصلا جدير بلفت أنظارنا.
قد تبدو سذاجة لغز سفينكس أحب إلينا من هذا الغموض الذي يحيط بقصيدة هربرت. ولكن ذلك الغموض أصدق من تلك البساطة. فالحياة البشرية أبعد ما تكون عن ذلك الوضوح الطفولي المزعوم.
في هذه القصيدة نقلة بعد المشهدين، مشهد الشفافية ومشهد الإثمار، نقلة يتبدل بعدها النمط المتبع قبل ذلك مرة تلو مرة. فإذا كان المشهد الأول والثاني يقدمان الشاعر راصدا للعالم خارج شباكه، فالمشهد الأخير يقدم الشاعر متأملا للاشيء. لقد حدث شيء ما بينما الشاعر نائم، بينما هو في غفلة ما بعد النضج، فصحا الشاعر على عالم لم يعد فيه لشجرة التفاح وجود. وإذا كان الإثمار قد أفقدها البراءة والشفافية من قبل، فما الذي حدث وجعلها تفقد الوجود نفسه؟ أهذا ما يفعله النوم؟ أهذا ما تؤدي إليه غفلة المرء عن شجرته، وانشغاله بثمارها عنها؟ أهذه القصيدة إنذار للإنسان بأنه ربما يستيقظ ذات يوم على عالم لم يعد هو نفسه موجودا فيه؟
***
ولماذا شجرة التفاح بالذات؟ بعد تفاحة آدم وحواء، تفاحة الغواية والمعرفة الأولى، تفاحة الخروج من الجنة إلى الأرض؟ وبعد تفاحة الجاذبية، تفاحة القانون الذي اكتشفناه لنكتشف تلك القوة الخفية ونعرف إلى أي شيء توثقنا؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق