ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 30 يوليو 2015

آدم زجاجيفسكي: في الفجر ... لا أسماء للمدن

في الفجر... لا أسماء للمدن

إليكم فيما يلي قصيدة حقيقية، بمعنى أن لها كاتبا هو آدم زجاجيفسكي الشاعر البولندي المولود في لفوف Lvov ببولندا عام 1945، والذي سبق لنا تقديمه هنا. والقصيدة مترجمة إلى الإنجليزية بقلم ريناتا جورسينسكي وبنجامين أيفري و سي كيه ويليمز. هذا عن القصيدة الحقيقية، وهناك، علاوة عليها، فيلم مزعوم.
***
عند مطلع الفجر
من شباك القطار عند مطلع الفجر
أرى مُدُنًا في نومها
خاويةً
كأنها بهائم هائلة.
لا يهيم في الميادين الشاسعة
سوى أفكاري
ورياحٌ قارسة
وراياتٌ من الكتان باهتة على الأبراج
والطيور تصحو في الشجر
وفي الحدائق الكثيفة
تبرق أعين القطط الضالة.
ونور الصباح الخجول،
كأنه ريفية خجولٌ
تظل وافدة جديدة على المدنية أبد الدهر،
منعكس على واجهات المحلات.
أحصنة الملاهي الخشبية
وقد امتلكت أنفسها أخيرا
تدور كأنما في صلاة على محاورها الخفية
والحدائق يتصاعد منها دخان كأنها خرائب وارسو.
لم تقف بعد أولى الشاحنات
بجانب سور السلخانة البني.
عند مطلع الفجر
لا تكون المدنُ مدنَ أحد
ولا تكون لها أسماء.
ولا أنا يكون لي اسم،
إنه الفجر
والنجوم تأفل
والقطار يحدد سرعة نفسه.

***
لا ينبغي للمرء أن يندهش لو حدث ذات يوم وقرر صناع هوليود أن يذهلونا بفيلم عن واحد آخر من مجانينهم الرائعين، والحكماء في الغالب. هذا المجنون يعمل مثلا في محطة المياه المركزية التي تعيش عليها مدينة ما صغيرة لنقل إنها في وسط أمريكا.
يبدأ الفيلم مثلا في اليوم الأخير من العام. عمال النهار في محطة المياه يستعدون للرجوع إلى المدينة فرحين، مشتاقين إلى ليلة رأس السنة والسهرة التي أعدوا لها جيدا. أما عمال الليل فيرتبون لحفلة تافهة يقيمونها لأنفسهم عوضا عن الحفلات الحقيقية في المدينة. وإذا بمجنوننا يعرض على زملائه أن ينوب وحده عنهم.
لن نطيل عليكم حكاية الفيلم الذي لم يقرر أحد بعد أن يقوم بتنفيذه. اختصارا نقول إن المجنون وضع في خزانات المياه مادته الكيميائية. وفي لقطات متتابعة نرى أطفالا يشربون في أسرَّتهم قبل أن يناموا، ورجالا ونساء يضيفون قليلا من المياه إلى كئوسهم، وآخرين يضعون أفواههم مباشرة في الصنابير، ثم صمت.
المدينة نامت. ليس في المدينة كلها من منتبه وواع إلا مجنوننا. هو الآن ملك المدينة وحاكمها المتوج، ليس من ساهر فيها غيره. له الآن أن يدخل كل البيوت، وكل البنوك إن شاء، ولكني لا أحسبه لصا. إنه طامح إلى ما هو أعظم من المال، إلى ما لا يشتريه المال، طامح إلى أن يكون الواحد الوحيد المنفرد بالمدينة، بما فيها وبمن فيها. ولو لاثنتي عشرة ساعة هي التي ينتهي بعدها مفعول المادة الكيميائية وتصحو المدينة.
ولكنه فيلم هوليودي، ولا بد من أن يقابل المجنون امرأة، وحدها، في بيت بسيط قريب جدا من محطة المياه المركزية النائية عن المدينة. يعجب المجنون كيف لم يرها من قبل، كيف غفل عن هذا الجمال الذي ظل سنين في متناول عينيه. يتساءل لو كان رآها من قبل، هل كان ليقضي كل هذه السنوات في تركيب هذه المادة؟
لقد وصل المجنون إلى بيتها مرهقا، بعدما قضى ساعات يتأمل حاكم المدينة، وشرطتها، ولصوصها، وتجارها، وعتاتها، وقد استسلموا لسلطانه عليهم. وصل إليها وقد تعب من الألوهية  الوهمية. وصل إليها فوجدها صاحية تقرأ مثلا في أنطولوجيا من الشعر البولندي، تحت نور سقيفة البيت، برغم برودة يناير القارسة.
قريبا هكذا من هذه المرأة الجميلة، يخشى مجنوننا من الاقتراب، كيف وهي الوحيدة التي لسبب لا يعرفه لم تخضع له؟ يكتشف أن سلطانه كان واهيا ومنتهكا، وأن ثمة من كان ساهرا طول الوقت مثله، ممتلكا نفس قدرته، ومترفعا عن استغلالها.
سترفضه المرأة. سترفض طموحه إلى أن يكون أعلى من كل الناس. وسيرجع بائسا إلى محطة المياه، مجرد إنسان تمتلئ المدينة بآلاف من نوعه سرعان ما سيدبون في شتى أنحائها. في محطة المياه يملأ لنفسه كوب ماء، وفي الوقت نفسه تشرب المرأة في سريرها كوبا آخر.

كان ينبغي أن لا يطغى الفيلم المزعوم على قراءتنا كل هذا الطغيان، كان ينبغي أن يتبقى مجال للكلام عن قصيدة زجاجيفسكي الذي لم نر في قصيدته من ساهر غيره، يصف المدينة كمن يحاكمها ويحكم عليها دون أن يمنحها فرصة للدفاع عن نفسها، كأنه هو نفسه شباك قطار لا حيلة لنا إلا رؤية العالم من خلاله. القطار الذي بينما كل من عداه نائم صار له الحق أخيرا في أن يحدد سرعته.

الخميس، 23 يوليو 2015

في الريح .. في كتف دكتاتور

في الريح .. في كتف دكتاتور
Polina Barskova


تعد الشاعرة الرسية "بولينا بارسكوفا" إحدى أهم الشاعرات الروسيات ممن تقل أعمارهن عن أربعين عاما بحسب التعريف الوارد لها في مجلة جورنيكا الأمريكية مع بعض أعمالها المنشورة في عدد المجلة الصادر في مايو من عام 2007. تضيف المجلة أن بارسكوفا نشرت العديد من الكتب الشعرية التي فازت بجوائز مهمة، وتضيف أنها انتقلت من روسيا إلى ولاية مساتشوستس الأمريكية حيث تعمل بالتدريس في كلية هامشر.

القصيدة التي نقدمها لها هنا مترجمة من الروسية إلى الإنجليزية بقلم "إيليا كاميينسكي".

***

مخطوطة عثرت عليها نتاشا روستوفا أثناء الحريق

سأحاول أن أعيش على هذه الأرض بدونك.

سأحاول أن أعيش على هذه الأرض بدونك.

سأصبح أي شيء،

لا يهمنى ماذا يكون

سأكون هذا القطار المسرع،

هذا الدخان،

أو هذا الرجل الجميل

الضاحك في المقعد المقابل.

الجسم البشري لا حول له ولا قوة

على الأرض.

قطعة حطب من الغابة

تضربها مياه المحيط.

شيئا يضعه لينين على كتفه الرسمي.


ولذلك، ولكي لا تعاني، تعيش النفسُ البشريةُ

في الريح، في الغابة، في كتف دكتاتور عظيم.

لكنني لن أكون ماء. ولن أكون نارا.

سأكون رمش عين.

إسفنجة تغسل شعرات عنقك.

أو فعلا، أو صفة، سوف أكون.

كلمةً ما تحمر لها وجنتاك.

ماذا جرى؟ لا شيء.

خطر لك شيء؟ لا.

ما جرى لا يمكنك الهمس به.

لا دخان من غير نار، هكذا يهمسون.

سأكون حفنة دخان

أعلى هذه المدينة الضائعة

أعلى موسكو.

سأكون عزاء كل رجل

سأنام مع أي رجل

تحت عربات الجيش المسافرة.

***

نتاشا روستوفا شخصية رئيسية من شخصيات رواية الحرب والسلام لـ ليو تولستوي. ومن ثم فهناك طريقتان لقراءة هذه القصيدة، أن نتذكر الشخصية الروائية، وغرامياتها، وما شهدته في حياتها من فجائع، وما آلت إليه حياتها في نهاية المطاف بعد انسحاب القوات الفرنسية حيث تمكنت روستوفا من الزواج أخيرا وإنجاب أربعة أطفال.

وطريقة أخرى لن تقتضي منا إلا أن نتجاهل العنوان الذي لا بد أن نكون نسيناه أصلا، والذي نذكركم به: "مخطوطة عثرت عليها نتاشا روستوفا أثناء الحريق"ويتبين أن نتاشا ليست بطلة هذه المخطوطة، أو هذه القصيدة، هي مجرد الشخص الذي عثر على المخطوطة. وهناك شخص آخر في قطار يكتب هذه الكلمات، أو يستسلم لانسيابها في ذهنه.

غير أن حضور الحرب لا ينتفي قط، يكفي اسم روستوفا في البداية لنتذكر جميعا الرواية والحرب، ويكفي ذكر عربات الجيش المسافرة في نهاية القصيدة جنبا إلى جنب الدخان المعلق أعلى مدينة موسكو الضائعة لنتذكر الحرب.

وما بين هذين القوسين، ثمة شخص ما هو بطل هذه المخطوطة، يخاطب غائبا، يقول له إنه سيحاول الحياة على هذه الأرض بعد أن فقده. من الصعب أن نفترض سببا آخر للغياب سوى الحرب. ولكن ربما يكون غياب الحبيب سببا هينا ليعجز شخص ما عن الحياة على الأرض. لا شك أن الحب محرك أساسي من محركات الحياة على هذه الأرض. حتى علم النفس ـ فيما نذكر ـ يضع الحب ـ في أحد أشكاله على الأقل ـ في مرتبة متقدمة من هرم الرغبات الإنسانية الأساسية. لكن، أإلى حد أن تستحيل الحياة لمجرد فقدان الحبيب؟ أإلى حد أن يجرب الإنسان وقد غاب حبيبه أن يفقد وجوده؟ أإلى حد أن يستوي لدى إنسان أن يكون إنسانا أو قطعة خشب تتقاذفها أمواج المحيط، أو كلمة تحمرّ بسببها وجنتان؟

لماذا نميل إلى المغالاة في ما يتعلق بالحب؟ لماذا تكون اللقية الوحيدة التي تنقذها نتاشا روستوفا من حريق موسكو هي هذه القصيدة العاطفية؟ ولماذا دون كل أنواع الحب نعلي كل هذا الإعلاء من حب الرجل والمرأة أحدهما الآخر؟ لماذا ليس الصديق صديقه، أو الأب أبناءه؟

ولماذا يكون الحب أوضح ما نراه في قصيدة فيها في الوقت نفسه تعريض بالطغاة؟ وفيها الإنسان إذ يتعالى على الماء والنار، على النقيضين، على الكمال؟ وفيها أيضا الإنسان، وبرغم أن وجوده هان عليه، يعلم أنه هو نفسه أكبر عزاء ممكن لغيره من البشر المعذبين؟

ماذا في الحب يجعل كل ما سواه دونه؟ وكيف لا تكون هذه نقيصته: أنه بمجرد حضوره يفقد كل ما عداه كثيرا من ألقه؟ كيف لم نحذر الحب ونحن نرى دائما أن الإنسان لا يكاد يذوقه مرة، حتى يصبح حضوره أو غيابه سببا لفقدان كل شيء عداه مذاقه؟ كيف لم ننتبه أن الحب يجعلنا أسرى جمال واحد، فيما الجمالات حولنا في كل شيء تستعطفنا أن نراها؟؟