ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الثلاثاء، 31 مارس 2020

نحن العصافير نطير بأقفاصنا


نحن العصافير نطير بأقفاصنا 
Alberto Blanco

ألبرتو بلانكو شاعر من المكسيك. ولد في الثامن عشر من فبراير عام 1951، وقضى في مكسيكو سيتي طفولته ومراهقته. درس الكيمياء والفلسفة، واهتم مدة عامين بالدراسات الأسيوية راميا التخصص في دراسات الصين.
نشر له للمرة الأولى في عام 1970، وكان ذلك في صحيفة يومية. وتتنوع كتابات بلانكو بين الشعر والمقال والترجمة. صدر له خمسة عشر كتابا مؤلفا إضافة إلى الترجمات. ونشر له بالإنجليزية كتاب شعري بعنوان "قفص الكلمات الشفافة" ويضم هذا الكتاب - عبر مائة وأربعين صفحة - مختارات من شعر بلانكو الصادر في دواوينه وكتيباته، أنجزه ثمانية مترجمين. من هذا الكتاب، ومن ترجمة الشاعر الأمريكي دبليو إس مِرْوِن إلى الإنجليزية نقدم هذه القصيدة.
***
ببغاوات البَرْكِيت
تتكلم طوال النهار
فإن شَرَع الليلُ في الحلول
إذا هي تخفض أصواتها،
لتحاور ظلالها
والسكوت

كغيرها الببغاواتُ:
ثرثرةٌ بالنهار
كوابيسُ بالليل.

بالحلقات الذهبية
حول الوجوه الذكية
بريشها اللامع
وقلوبها المنهكة من الكلام ...

كغيرها
- الببغاوات -
خُصَّ أفضلُها في الكلام
بأقفاص منفردة.
***
قصيدة عن الشعراء طبعا. قصيدة عن الشعراء ولا داعي لمزيد من الكلام.
قليل من مخرجي السينما، بل قليل جدا، هم الذين يظهرون في أفلامهم، أو يخصصون أفلاما كاملة لسيرهم الذاتية. قليلون قياسا إلى آلاف المخرجين الذين يتسلمون من الكتَّاب سيناريوهات جاهزة ليحيلونها صورا متحركة مطبوعة على سليلويد. هذا عن مخرجي السينما. بينما الفنانون التشكيليون مثلا يظهرون بين الحين والآخر كل في بورتريه ذاتي، أو في مجموعة بورتريهات ذاتية. أما الروائيون وكتاب القصة القصيرة والمسرحيون، فينفون ـ إلا من رحم ربي حضورهم في أعمالهم، ولا يصدقهم أحد أو يعنى بنفيهم. ويبقى الشعراء منفردين وسط جميع منتجي الفن.
لا يكاد يوجد شاعر لا يتكلم عن نفسه، ولا يكاد يوجد شاعر إلا ويتكلم عن نفسه كشاعر. فإلام يستند الشعراء حينما يكلموننا عن الشاعر، تلميحا أو تصريحا؟ تراهم يتصورون أن القراء يتحرقون فضولا إلى معرفة ماهية الشاعر وكنهه وطبيعة أزمته الفريدة أو حياته الفريدة؟ أم تراهم لا يملكون الخيرة من أمرهم، فهم مدفوعون بقوة الشعر والإلهام والوحي وشياطين الشعر إلى ملاحقة الشاعر بكاميرا تسجل حالاته المختلفة؟ أم تراهم يعلمون أن الشاعر هو جوهر الإنسان، فمتى عرف الإنسان أزمة الشاعر عرف أزمة نفسه؟
أهي النرجسية المحضة ما يدفع الشعراء إلى تصوير أنفسهم، وجعلها مواضيع للفن؟ أم لعل الشاعر في طراده الدائم لقنص ذاته يعترف بامتناع الذات البشرية عموما على الاستسلام للصياد وإن يكن هو الذات البشرية نفسها؟
في هذه القصيدة، التي تتكلم عن الببغاوات، رَصْد آخر للشاعر. فقد اختار الشاعر لاستعارته العامة كائنا هو الوحيد - في ما نعرف - الذي يجعلنا نعجز عن تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق أو متكلم. الببغاء، الطائر القادر على إعادة إنتاج الصوت البشري سواء أوعى ما ينطقه أم جهله. اختار الشاعر ليتكلم عن الشعراء كائنا رسخ في الوعي البشري الاعتماد عليه في سياقات ذم الاتباع والثرثرة. فهل يرمي الشاعر ولو من بعيد إلى أن الشعراء محض مثرثرين يهرفون بما لا يعرفون؟ لا أحسب ذلك. لقد أراد الشاعر، ربما، من قصيدته كلها تلك النهاية الأسيانة، أراد، ربما أن يقول، إن أحسن الببغاوات نطقا هم أكثر الببغاوات معاناة، هم المحبوسون انفراديا. ولكن في أي قفص؟
أي قفص ذلك الذي ينحبس فيه أحسن الشعراء كلاما؟ أهو قفص اللغة وحده؟ أهو قفص الكلام؟ أم هو قفص السبق والتجاوز، ذلك القفص الذي يمكن أن يدخل إليه إنسان بمجرد قوله ما يعجز المحيطون به عن فهمه، أو ما لا يريدون فهمه؟
جاء في الأثر أن أحدهم قال لأبي تمام: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فقال له أبو تمام: ولماذا لا تفهم ما يقال؟ هكذا تروى الحكاية دائما، فيستدل بها على سرعة بديهة الشاعر وجاهزيته بالرد المفحم. ولكن لماذا لم يقف أحد أمام المعضلة؟ لماذا لم يتصور أحد الشاعر وقارئه شخصيتين في مسرحية هما كل أبطالها؟ لماذا لم يقف أحد أمام هذه الأزمة، ولست أعني فقط أزمة القارئ العاجز عن الفهم، ولا أزمة الشاعر العاجز عن الإفهام، بل أزمة الشخصية الثالثة في المسرحية، أزمة الكلام المنطوق، الذي خرج من فم الشاعر فانفصل عن هذا الرحم، ولم يدخل وعي القارئ، وبقي في يمبوس لعله أبدي؟
أتكون الببغاوات في قصيدة بلانكو رمزا لا للشعراء، بل للشعر نفسه، للكلام المحبوس في ذاته، بلا أمل في اجتياز سور هذا السجن؟ وهل يكون أفضل الببغاوات مجرد إشارة للشعر، خاصة وأن شاعرا إنجليزيا قال ذات يوم:
النثر هو الكلمات في أفضل نسق، والشعر هو أفضل الكلمات في أفضل نسق.
تلك الأفضلية التي لعلها مجرد قفص.
***


ما الذي يفعله الشعراء حقا حينما يفضحون أنفسهم، و يجعلون للفضيحة أجمل ما ليهم من جلالجل، يجعلون فضائحهم أغنيات؟

يمتثلون لمثل ما امتثلت له أم موسى من قبل: فإن خفت عليه فاقذفيه في اليم. يضعون أنفسهم في سلال، ويرمون بها إلى النهر. 

.ما الذي يفعله الشعراء حقا حينما يكتبون أنفسهم؟
يعملون. حديثهم عن أنفسهم هو عملهم، حديثهم عن أنفسهم هو أجرهم.

الاثنين، 30 مارس 2020

هذه هي حياتي... هذه هي حياتنا


هذه هي حياتي... هذه هي حياتنا
نشر الشاعر الدنماركي هنريك نوربراندت ما يربو على عشرين ديوانا. ويعد واحدا من كبار الشعراء المعاصرين في الدنمارك. حصل هنريك نوربراندت على جائزة نورديك في عام 2000، وترجمت أعمال له إلى الإنجليزية بقلم ثُوم ساترلي منذ أواخر تسعينيات القرن الشعرين ومنها قصيدة نشرت في عدد ابريل 2005 من مجلة آجني الأمريكية هي التي تلي.


ملاحظة من حرب كوسوفو

لم أستطع أسفلَ في القبو أن أرى
لأنني، كما تبين لي، كنت أرتدي نظارتي الشمسية
وحين خلعتها أخيرا
أطحت بها عني في غضب.

جالس أنا الآن لكنني
لا أستطيع أن أتبين البحر
لأنني أرتدي نظارة القراءة.
ولا أنا قادر على قراءة ما سبق أن كتبت
لأن الشمس مبهرة السطوع.

معاندا، أظل مرتديا نظارة القراءة
وما لشيء أن يحملني على النزول إلى القبو
 للبحث عن نظارتي الشمسية.
هذه هي حياتي.
هذه هي حياتنا جميعا.

وهكذا تستمر الحرب.
***
أثق أن كثيرا منا لم يعودوا قادرين أن يتذكروا كيف كانت حياتهم قبل انتشار المحمول. كيف بالفعل كنا نجد أصدقاءنا حين نريدهم؟ وهل كنا حقا نحتمل الانتظار إلى أن يعود هذا الصديق أو ذاك إلى منزله آخر اليوم فتخبره زوجته ـ إن هي اهتمت أو تذكرت ـ بأن فلانا اتصل به؟  تبدو مثل هذه التفاصيل حفريات متخلفة من زمان سحيق انقطعنا عنه تماما.
زمن كنا نرسل فيه الخطابات بالبريد فلا نتوقع وصولها قبل أسابيع، ولا نتوقع ردودا قبل أسابيع أخرى؟ زمن كنا نستمتع، وأعني هذه الكلمة، نعم، كنا نستمتع ونحن نشاهد قنواتنا التليفزيونية المحلية، ونطالع الجريدة في الصباح بوصفها المصدر لمعرفة ما يدور في العالم. زمن ليس بعيدا بقدر ما يبدو، فما هي إلا عدة سنوات. ولكنه زمن مضى تماما، وأصبح المحمول والكمبيوتر والقنوات الفضائية بمثابة أعضاء حقيقية في أجسادنا. وإذن فقد زاد فينا ما يمكن بتره.
لكن مالنا والموبايل والإنترنت والسيارة وغيرها؟ أمامنا شخص في قصيدة، يحتاج قبل أن ينزل القبو أن يخلع النظارة الشمسية، وقبل أن يفتح الكتاب أن يرتدي نظارة القراءة، ولكي يرى البحر عليه أن يخلع نظارة القراءة ويرتدي نظارة الرؤية العادية، ولأن الشمس ساطعة فنظارة القراءة لا تغني للقراءة، ونظارة الرؤية العادية لا تغني عن نظارة الشمس. ثمة حاجة إذن إلى نظارة مزدوجة تجمع ما بين القراءة والرؤية العادية، وهذه موجودة، و هي مزعجة للغاية، وذلك من واقع تجربة حقيقية عايشها كاتب هذه السطور وإن لم يكن هو بطلها، ويزداد الإزعاج بضرورة أن تكون هذه النظارة المزدوجة معتمة بما يتيح لها ميزة النظارة الشمسية، وكل ذلك لكي يستمتع امرؤ بالقراءة على البحر. اللعنة، أي عالم هذا الذي لم يعد يستطيع الإنسان أن يعيش فيه بجسمه فقط؟ لقد أصاب الشاعر تماما حين قال إن مثل العناد الذي يواجه به بطل قصيدته احتياجاته المتزايدة، ومثل الغضب الذي بات ينتابنا لأبسط الأمور بل وأتفهها، هو تحديدا ما يجعل الحروب تستمر.
للأمريكي جيمس تيت، رأي آخر، في قصيدة عن رجل له ساق خشبية، وهو فضلا عن ذلك سجين، وهو يخطط للهرب:
الرجل ذو الساق الخشبية يهرب من السجن. يقبضون عليه. يأخذون منه ساقه الخشبية. عليه كلَّ يومٍ أن يعبر تلا كبيرا ويقطع النهر عوما ليصل إلى الحقل الذي عليه أن يعمل فيه طول النهار على ساقٍ واحدة. في حفل رأس السنة يردون إليه ساقه الخشبية. هو الآن لا يريدها. خطة هروبه مكتملة. لا تتطلب إلا ساقا واحدة.
أما من خدعة هنا؟ لا أعني في قصيدة جيمس تيت. فجيمس تيت ـ في ما يبدو لي ـ فطن إلى الخدعة، أعني الخدعة الكبرى التي تتفرع منها كل الخدع، الخدعة التي بموجبها أن شخصا ما في لحظة ما سوف يسلبك شيئا ما، لا يهم من يكون الشخص، ولا يهم ماذا يكون الشيء، المهم فقط أن تعتزم أيها السجن أن تحاول وتستطيع بما يبقى معك بعد كل سلب أن تضع خطة للهرب.
ليست هذه هي الخدعة التي تعنيني هنا، وإنما خدعة أخرى من الخدع المتفرعة منها، خدعة اعتمدتها قصيدة هنريك نوربراندت: لقد ألهانا الرجل بتتبع نظاراته المختلفة، في أماكنه المختلفة، فلعلنا لم ننتبه في غمرة متابعة عرض النظارات هذا  إلى أنه قبل أن يطيح بإحدى هذه النظارات "في غضب" كان قد رأى في القبو ما لم يصفه. ثم إنه ألهانا بنظارة أخرى فلم نسأله ما الذي كتبه ولم يستطع قراءته. ولم نتساءل: هل لما كتبه علاقة بما سبق ورآه في القبو، القبو الذي يقول إنه ما لشيء أن يحمله على النزول إليه مرة أخرى؟ وهل لما رآه وأغضبه، وما كتبه وكتمه، هل لذلك المسكوت عنه في القصيدة علاقة بكلمة كوسوفو، وحرب كوسوفو، والدم الذي أريق في ذلك البلد ولم يزل يلطخ حتى أحرف اسمه؟
هل هذه وظيفة الأشياء، سواء أهي نظارات أم شاشات أم غير ذلك: أن تلهينا بما ترينا عما ينبغي أن نراه، أن تشغلنا، بينما آلة الحرب دائرة، بوقود من غفلتنا؟