ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الاثنين، 30 مارس 2020

هذه هي حياتي... هذه هي حياتنا


هذه هي حياتي... هذه هي حياتنا
نشر الشاعر الدنماركي هنريك نوربراندت ما يربو على عشرين ديوانا. ويعد واحدا من كبار الشعراء المعاصرين في الدنمارك. حصل هنريك نوربراندت على جائزة نورديك في عام 2000، وترجمت أعمال له إلى الإنجليزية بقلم ثُوم ساترلي منذ أواخر تسعينيات القرن الشعرين ومنها قصيدة نشرت في عدد ابريل 2005 من مجلة آجني الأمريكية هي التي تلي.


ملاحظة من حرب كوسوفو

لم أستطع أسفلَ في القبو أن أرى
لأنني، كما تبين لي، كنت أرتدي نظارتي الشمسية
وحين خلعتها أخيرا
أطحت بها عني في غضب.

جالس أنا الآن لكنني
لا أستطيع أن أتبين البحر
لأنني أرتدي نظارة القراءة.
ولا أنا قادر على قراءة ما سبق أن كتبت
لأن الشمس مبهرة السطوع.

معاندا، أظل مرتديا نظارة القراءة
وما لشيء أن يحملني على النزول إلى القبو
 للبحث عن نظارتي الشمسية.
هذه هي حياتي.
هذه هي حياتنا جميعا.

وهكذا تستمر الحرب.
***
أثق أن كثيرا منا لم يعودوا قادرين أن يتذكروا كيف كانت حياتهم قبل انتشار المحمول. كيف بالفعل كنا نجد أصدقاءنا حين نريدهم؟ وهل كنا حقا نحتمل الانتظار إلى أن يعود هذا الصديق أو ذاك إلى منزله آخر اليوم فتخبره زوجته ـ إن هي اهتمت أو تذكرت ـ بأن فلانا اتصل به؟  تبدو مثل هذه التفاصيل حفريات متخلفة من زمان سحيق انقطعنا عنه تماما.
زمن كنا نرسل فيه الخطابات بالبريد فلا نتوقع وصولها قبل أسابيع، ولا نتوقع ردودا قبل أسابيع أخرى؟ زمن كنا نستمتع، وأعني هذه الكلمة، نعم، كنا نستمتع ونحن نشاهد قنواتنا التليفزيونية المحلية، ونطالع الجريدة في الصباح بوصفها المصدر لمعرفة ما يدور في العالم. زمن ليس بعيدا بقدر ما يبدو، فما هي إلا عدة سنوات. ولكنه زمن مضى تماما، وأصبح المحمول والكمبيوتر والقنوات الفضائية بمثابة أعضاء حقيقية في أجسادنا. وإذن فقد زاد فينا ما يمكن بتره.
لكن مالنا والموبايل والإنترنت والسيارة وغيرها؟ أمامنا شخص في قصيدة، يحتاج قبل أن ينزل القبو أن يخلع النظارة الشمسية، وقبل أن يفتح الكتاب أن يرتدي نظارة القراءة، ولكي يرى البحر عليه أن يخلع نظارة القراءة ويرتدي نظارة الرؤية العادية، ولأن الشمس ساطعة فنظارة القراءة لا تغني للقراءة، ونظارة الرؤية العادية لا تغني عن نظارة الشمس. ثمة حاجة إذن إلى نظارة مزدوجة تجمع ما بين القراءة والرؤية العادية، وهذه موجودة، و هي مزعجة للغاية، وذلك من واقع تجربة حقيقية عايشها كاتب هذه السطور وإن لم يكن هو بطلها، ويزداد الإزعاج بضرورة أن تكون هذه النظارة المزدوجة معتمة بما يتيح لها ميزة النظارة الشمسية، وكل ذلك لكي يستمتع امرؤ بالقراءة على البحر. اللعنة، أي عالم هذا الذي لم يعد يستطيع الإنسان أن يعيش فيه بجسمه فقط؟ لقد أصاب الشاعر تماما حين قال إن مثل العناد الذي يواجه به بطل قصيدته احتياجاته المتزايدة، ومثل الغضب الذي بات ينتابنا لأبسط الأمور بل وأتفهها، هو تحديدا ما يجعل الحروب تستمر.
للأمريكي جيمس تيت، رأي آخر، في قصيدة عن رجل له ساق خشبية، وهو فضلا عن ذلك سجين، وهو يخطط للهرب:
الرجل ذو الساق الخشبية يهرب من السجن. يقبضون عليه. يأخذون منه ساقه الخشبية. عليه كلَّ يومٍ أن يعبر تلا كبيرا ويقطع النهر عوما ليصل إلى الحقل الذي عليه أن يعمل فيه طول النهار على ساقٍ واحدة. في حفل رأس السنة يردون إليه ساقه الخشبية. هو الآن لا يريدها. خطة هروبه مكتملة. لا تتطلب إلا ساقا واحدة.
أما من خدعة هنا؟ لا أعني في قصيدة جيمس تيت. فجيمس تيت ـ في ما يبدو لي ـ فطن إلى الخدعة، أعني الخدعة الكبرى التي تتفرع منها كل الخدع، الخدعة التي بموجبها أن شخصا ما في لحظة ما سوف يسلبك شيئا ما، لا يهم من يكون الشخص، ولا يهم ماذا يكون الشيء، المهم فقط أن تعتزم أيها السجن أن تحاول وتستطيع بما يبقى معك بعد كل سلب أن تضع خطة للهرب.
ليست هذه هي الخدعة التي تعنيني هنا، وإنما خدعة أخرى من الخدع المتفرعة منها، خدعة اعتمدتها قصيدة هنريك نوربراندت: لقد ألهانا الرجل بتتبع نظاراته المختلفة، في أماكنه المختلفة، فلعلنا لم ننتبه في غمرة متابعة عرض النظارات هذا  إلى أنه قبل أن يطيح بإحدى هذه النظارات "في غضب" كان قد رأى في القبو ما لم يصفه. ثم إنه ألهانا بنظارة أخرى فلم نسأله ما الذي كتبه ولم يستطع قراءته. ولم نتساءل: هل لما كتبه علاقة بما سبق ورآه في القبو، القبو الذي يقول إنه ما لشيء أن يحمله على النزول إليه مرة أخرى؟ وهل لما رآه وأغضبه، وما كتبه وكتمه، هل لذلك المسكوت عنه في القصيدة علاقة بكلمة كوسوفو، وحرب كوسوفو، والدم الذي أريق في ذلك البلد ولم يزل يلطخ حتى أحرف اسمه؟
هل هذه وظيفة الأشياء، سواء أهي نظارات أم شاشات أم غير ذلك: أن تلهينا بما ترينا عما ينبغي أن نراه، أن تشغلنا، بينما آلة الحرب دائرة، بوقود من غفلتنا؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق