ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 21 يناير 2016

بويكو لامبوفسكي ... الخروج من الخدمة

بويكو لامبوفسكي ... الخروج من الخدمة
Boiko Lambovski


ولد الشاعر "بويكو لامبوفسكي" سنة 1960 في صوفيا ببلغاريا. هو شاعر وكاتب مقال. بدأت كتبه الشعرية في الصدور منذ عام 1986، وكان أولها بعنوان "الرسول"، تلاه "الهوان القرمزي" و"إدواردا"، و"نقد الشعر"، و"الرب آمر الحارس". ترجم شعره إلى الإنجليزية والألمانية والروسية والصربية والسلوفانية والإيطالية والعربية Arabian  وغيرها. حصل على كثير من الجوائز الشعرية التي يحددها موقع بوينت POINT للشعر الدولي (Poetry International)  بعشرين جائزة، وشارك في العديد من المهرجانات العالمية.

من ديوانه الأول "الرسول" قصيدة ترجمت إلى الإنجليزية بقلم كرستينا ديمتروفا.

***
الرجل الصلصالي

أيها الطبيب،

ماذا نفعل في الرجل الصلصالي؟


لا يريد أن يدرس

ويقول: عيناي

تتداعيان بسبب الحروف.


عيناه تبدوان بالفعل

قطرتين مفزوعتين.


ولا يصلح للجندية

رأت اللجنة العسكرية بعدما ضجرت

أن في مخه مَسًّا

من مرض الحمائم.


ولا ينفع بهلوانا؛

يرتعش بشدة

يرتعش يمينا

يرتعش شمالا

وابتسامته


أيها الطبيب،

ماذا نفعل في الرجل الصلصالي؟


رفع الطبيب يده إلى جبينه،

أرضٌ أماتها الجفافُ

جبينُه.


الطبيب لا يؤمن
بربوبية الله.

القوي لا يصدق الضعيف.


السمكة لا تصدق أنها عالقة في الشبكة.


الصحيح لا يصدق المريض.


الشجرة لا تصدق قُبلة المنشار.


الحي لا يصدق الميت.


وهو،

رجلُ الصلصال،

لا يصدق الطبيب.

***
فلنعط الشاعر بويكو لامبوفسكي أولا ما يريده: أدهشْتَنَا. كنا نتصور أن الطبيب هو القوي، هو الذي سوف يقرر. ولكنك كشفت لنا في النهاية أن القوي هو الرجل الصلصالي. الصلصالي الذي لا يصلح جنديا ولا يصلح بهلوانا، ولا يبدو أن هناك احتمالات أخرى. شكرا على المفاجأة.

ونتفرغ من بعد للنظر في المرآة، حيث رجل أو امرأة. حيث إنسان من صلصال من حمأ مسنون. ولنسأل هذا الشخص ساكن المرآة، أأنت حقا الأقوى، أنت يا من لا يجدون فيك نفعا لشيء، أأنت بحق الأقوى؟ منهم؟ بماذا؟ من أي مصدر تأتي قوتك.

يضع الشاعر في موضع القوة السمكةَ في مقابل الشبكة، والصحيحَ في مقابل المريض، والشجرةَ في مقابل المنشار؟ فماذا عن القارئ والشاعر، أيهما في موضع القوة من الآخر؟ أيهما ينبغي أن لا يصدق الآخر؟

ليس هذا سؤالا من خارج القصيدة، إطلاقا؟ فالقصيدة تقترح القوة معيارا للعلاقات بين البشر، فالأقوى هو الذي يحق له أن لا يصدق الأَضعف. وبمنطق هذه القصيدة ينبغي أن نعرف من منا الذي يحق له أن يستقل عن الآخر، أن يصدقه أو يكذبه، أن يتبعه ويسير على خطاه، أو يدير له ظهره ويولي حيثما يشاء: القارئ أم الشاعر؟ أم ترانا ينبغي أن نكتفي بالاعتراض على اتخاذ القوة معيارا؟

لقد عمد بويكو لامبوفسكي بذكاء شديد إلى استمالتنا إليه. جعل الرجل من صلصال، مثلنا جميعا، ضمن القراء من ثلاث ديانات على الأقل في صفه، ثم إنه جعل العدو طبيبا، ومن منا ليس في ذراعه أثر حقنة من طبيب، وثأر مرجأ إلى الأبد. من منا لا ينتظر طويلا، ربما ساعات، وربما أياما، إلى أن يشرف بالمثول بين يدي صاحب الجلالة الطبيب، من منا لا يصل إلى قدس الأقداس وهو لا يكظم غيظا شديدا، وربما بعض الكراهية؟ من منا لن يفرح حينما يشار إلى جبهة الطبيب، واجهة مخه بالذات، بأنها أرض أماتها الجفاف؟ من منا لن يشعر بأن الشاعر ثأر له حينما ألحق هذه الهزيمة بالطبيب، صاحب السلطة أيضا، موزع الهويات على الناس؟

ولكن علينا، ولو في حضرة الشعر، أن نترفّع مؤقتا عن هذه الشهوات الانتقامية، لا ينبغي أن يكون الشعر بالذات سببا لإثارة مثل هذه المشاعر المقيتة فينا؟ كما لا ينبغي أن يكون الشعر بالذات مجالا لإشباع مثل هذه الشهوات؟

ولندع معا، أن تقع هذه القصيدة مثلا بين يدي طبيب، أو ذي سلطة، عساه يتذكر أنه هو نفسه إنسان من صلصال، وأن جلوسه في هذا الناحية من باب غرفة الكشف لن يستمر إلى الأبد.

***


مؤكد أننا بحاجة إلى قدر هائل من العمى، كي لا نرى البشر طبقات بعضها فوق بعض، كي لا نرى رقبة كل إنسان في قبضة إنسان. أو التعامي. أو هي خطوة نرجعها إلى الوراء. ليس على الرجل الصلصالي إلا أن يتراجع خطوة فإذا به خارج حلبة المنافسة، وخارج مقاعد المشاهدين. خطوة محترمة إلى الوراء، يصل بها إلى الموضع الذي كان فيه إنسان الكهف مثلا. هنالك، في كهف عدم الاهتمام هذا، يمكن أن يشعر الرجل الصلصالي أن رقبته لم تعد بين يدي مثيل له. يمكنه هناك أن يتحسس جسمه وهو يشعر أنه جسمه وحده، لا يخدم أحدا غيره. هناك يمكنه أن لا يقيس قوته، فإلى أي شيء يقيسها؟ ويمكنه هناك أن يأمن على نفسه تماما، ويدخر طاقته لمعركة الحياة أو الموت مع الفيروس. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق