معي جمال كافر ... معي جمال كافر
بدأت الحكاية بسيطة
للغاية: شخص يقرأ مادة تعجبه، فيفكر أن يدعو أصدقاءه في فيسبوك إلى قراءتها. ينسخ
الرابط، وينسخ سطورا، ويجرب أن ينشر ما نسخه في الموقع الأزرق، فيفاجئه أن خللا
طرأ على ترتيب الكلمات والحروف. ولأن السطور التي اختارها قليلة، يقرر أن ينسخها
بيده نسخا صحيحا لا خلل فيه.
ذلك بالضبط ما
حدث معي وأنا أقرأ شهادة الشاعر الصديق عماد أبو صالح عن الشاعر اليوناني الكبير
قسطنطين كفافيس (1863-1933) في نسخة رقمية (PDF) من عدد مارس 2020 من مجلة الدوحة. هكذا تحول فعل القراءة إلى فعل كتابة،
أو إلى قراءة متأنية جعلتني ألعن القراءة الأولى، السريعة، الغافلة. ولعلي كان
ينبغي ألا ألعن، وإنما أتشكك، أتشكك في كل قراءة تتجاوز سرعة الكتابة، أتشكك في كل
قراءة لا تكون بالقلم، أعني كل قراءة كالتي تقرأونها أنتم الآن، عبر شاشة.
|
عماد أبو صالح في بيت كفافي بالإسكندرية ـ ديسمبر 2019 |
***
حدثنا عماد أبو صالح قال:
"كتب قسطنطين كفافيس عن بائع متجوّل عاش في
الإسكندرية، سنة 31 قبل الميلاد. كان وسط الضجيج
الكبير وصخب الموسيقى، ينادي: "بخور"، "زيتون ممتاز"، "زيت
شعر"، "لبان".
لم يسمع أحد صوته. دفعته الجموع بأكتافها، وهي
زاحفة للاحتفال بأنطونيو، الذي كان يتقدَّم، في اليونان، من نصر إلى نصر.
أنا رأيت البائع نفسه،
بعد أكثر من ألفي سنة،
بين الحشود الهائلة من الثوار
يحمل البضائع نفسها،
وينادي بالحماس نفسه،
وتدفعه الأكتاف نفسها.
كيف أمكنه أن يعيش
كل هذه السنين؟
كيف لم تتلف بضاعته،
رغم مرور كل هذا الزمن؟
***
ثمة في هذه السطور كلمتان تمثلان جملة اعتراضية، أحسب أنني في قراءتي
الأولى لم أنتبه إليهما: في اليونان.
لقد كانت حشود الإسكندرية التي دفعت البائع بأكتافها أو دهسته تحت أقدامها ذاهبة للاحتفال بشخص "في اليونان"، والتهليل
لانتصارات تتحقق دون أن يروها. كانت الجموع ماضية لإجلال شيء ليس بين أيديهم. أما
ما كان بين أيديهم، أو ظهرانيهم، وما كانوا يسمعونه بآذانهم، فدفعوه عنهم، ونحوه
من طريقهم.
ألا تصلح هذه استعارة لمترجم الشعر؟ لي أنا؟ أنا الذي منذ عشرين عاما أطلب الشعر
من شتى البلاد، لماذا لم أنتبه إلى ما هنا، إلى ما يسرح به بائع يدفع عربته ـ أو
تجرُّه عربته ـ في شارعنا كل صباح وكل مساء، مناديا: عندي جمال كافر، معي عجوز
تؤلمه الضحكات!
ألفا سنة مضت، ولم يزل البائع تهمله الحشود، لكن الحشود هذه المرة ليست
حشود المحتفلين، إنهم ثوار. أكاد أجزم أنني أعرف الثورة المعنية، أكاد أجزم أنها
كانت حفلة أيضا، أقيمت على شرف نصر ربما لم يكن بعيدا في اليونان، لكنه مع ذلك كان
بعيدا، وبقي بعيدا، بُعدَ نصر لم يتحقق بَعْد، ولم يتحقق قط. وهذا ما لم يزل يحدث،
هذا تقريبا هو الناموس العابر للألفيات: علينا أن نجد مبررا لدهس الشاعر، وتنحيته.
طبعا هو الشاعر. لا الذي دفعته أكتاف السكندريين قبل ألفي سنة بائع بخور،
ولا الذي يمر ببيتي كل صباح وكل مساء إلا عماد أبو صالح. وليس الفيل في القصيدة
التالية بفيل أصلا، أعني هذه القصيدة لجاك جيلبرت (1925-2012):
|
جاك جلبرت |
في ذم الشعر
كان ملك سيام إذا أبغض رجلا من بلاطه
أعطاه فيلا أبيض جميلا.
ذلك الحيوان المعجز
كان ينبغي له من الشعائر والطقوس
ما يجعل الاعتناء به هلاكا له
أمّا عدم الاعتناء به فأدهى وأمرّ.
وما لأحد أن يرفض الهدية.
اغفروا لي، أولا، هذه الترجمة السريعة. وثانيا، دعكم
من رجال البلاط المغضوب عليهم في سيام، وارجعوا بنا إلى الاسكندرية قبل ألفي سنة،
وإلى ميدان التحرير قبل سنوات، حيث بائع لم يغضب عليه ملك سيام، ولم يوهب فيلا
أبيض جميلا معجزا، ولعينا؛ تقتله العناية ويقتله الإهمال فلا تعرف ماذا يحييه
وماذا يرضيه وماذا يرفع عنك عقاب مانحه، ارجعوا بنا إلى بائع تنبذه الجموع وتغفل
عن نداءاته الآذان، إلا أذن كفافيس تارة وعماد أبو صالح تارة أخرى.
ارجعوا بنا وأخبروني: هل ذلك شر أم خير؟ أن يبقى
البائع مهملا. لا أريد أن أغالي، لا أريد أن أجعل من الشاعر قديسا يجد رضاه في
عزلته، أو مريضا يجد لذة في أن ينهره الناس ويهملوه، ولا أريد أن أقول إن البائع
السريح لا يغنيه عن عربته وركنه الصغير عرش أنطونيو. لا أريد أن أقول شيئا من هذا.
لأنني لا أعرف شرا خالصا أو خيرا خالصا.
أريد أن أقول فقط إن هذا للشاعر، أيِّ شاعر، هو وصف
المهنة (job description) كما يقول أهل الموارد البشرية. هذا ما يحدث لك
إن أردت النزول إلى سوق الشعر بما معك من بضاعة. يكون عليك أن تترك كل شيء، لتعيش
في خدمة فيل أبيض جميل معجز، لا حياة لك إلا بحياته. فيل هو العقاب والثواب معا. قد
لا تعرف أبدا كيف تبقيه على قيد الحياة، ولكن من المؤكد أن انصرافك عنه إلى الناس،
أو إلى ما عداه، لا ينبغي أن يكون خيارك. هذا فيل عليك أن تبقي عينك عليه، فبهذا
فقط يحيا، وتحيا.
***
كتبت ما سبق بالأمس. في سويعات الفجر الأولى. ومضيت في ما بقي من يومي أفكر، لا أدري لذلك سببا، في الشعراء الذين يتحولون إلى سلع.
لقد خطر لي، وكتبت فعليا، أن العزلة، بل النبذ في بعض الأحيان، جزء من الوصف الوظيفي للشاعر. لماذا؟ لماذا يكون الأمر كذلك؟
الشاعر بطبيعته، أي برغم أنفه، يهدم ما يبنيه غيره. تعالوا نتأمل لافتة زرقاء على طريق. هذه اللافتة تحدِّد، بكلمات قليلة، وجهات المارة، يقرأها الركاب في سيارتين متجاورتين، فتنعطف إحداهما بعد خمسمئة متر، وتواصل إحداهما الطريق. الجميع قرأوا الكلمات نفسها، وتباينت مع ذلك النتائج والمآلات. هل هذا ما يفعله الشعر؟ على الإطلاق.
من شأن هذه اللافتة الزرقاء، إن أصبحت كلماتها القليلة شعرا لا أمرا، أن تفعل في السيارتين شيئا آخر: توقفهما. لا تحيد إحداهما عن الطريق ولا تكمله الثانية. لأن الطريق نفسه ينتفي. لأن اللغة التي تنتقل عبرها تعليمات الحركة والوجهة، تصبح هي نفسها الوجهة، تصبح هي الغاية من الرحلة، فتتعطل عندها الحركة. هذا ما يفعله الشعر في اللغة، يوقفها عن أن تكون أداة.
هكذا يخرب الشاعر لغة الناس. يحيلها من وسيلة شفافة، إلى تحفة، قطعة من الفن، حلوى تظل في الفم إلى الأبد ولا تذوب.
شخص مهنته تعطيل أهم أدوات البشر على الإطلاق، كيف لا ينبذه البشر؟ كيف لا يشعر هو في أعماقه بذنب يجعله ينبذ نفسه إن لم يجد من ينبذه؟
وبعيدا عن اللغة.
الشاعر أيضا عقبة في مسيرة البشر إلى التطور. من الأشياء القليلة التي يتفق عليها العلم والدين والفهم الشائع أن الإنسان ينتقل من طور إلى طور: من الطفولة إلى الصبا والشباب والرجولة وما إلى ذلك، ومن السذاجة إلى النضج إلى الحكمة إلى الخرف، وما إلى ذلك، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الزراعة إلى الصناعة، وغير ذلك من أطوار وأطوار لا بد أن يعبرها البشر أفرادا وقطعانا. هكذا يرى الناس والآلهة والعلماء، ويعترض الشاعر، يعترض إذ يلعب، يعترض إذ يديم عامدا ـ أو مرغما ـ سذاجته وطفولته. يعترض إذ ينحاز للخارجين عن القطيع الثائرين عليه، والمتخلفين عن الركب لعجز أو تعب. وجود الشاعر نفسه اعتراض. مظاهرة من شخص واحد ضد سبعة مليارات شخص. كلهم قائمون وهو مضطجع. كلهم ماضون إلى المصب وهو يبلبط في المنبع. كلهم ينعمون بالسلام وهو يرى مجازر الحرب. كلهم يحملون السلاح وهو يغني للحب. الشاعر شريك مخالف. والشاعر لا يخالف ليعرف، أو ليظهر باختلافه، إنما يفعل ذلك ليذكِّر قطيع الأصحاء بالمرضى، ويلفت الأعين المبهورة بالضوء الساطع إلى ما تخفيه الظلال.
برغم أنفه، يختار الشاعر الكرسي المعيب، يعيره ساقه الحية بدلا من ساقه المختلة، يكمل بجسمه جسمه، يصبح هو والكرسي المخلخل شيئا واحدا، ثابتا إلى حين.
لكن من الشعراء من جلسوا على عروش. منهم من عاشوا حياتهم يدللهم الملوك ويستعبدونهم. هؤلاء الشعراء هم الذين أقول إنهم تحولوا إلى سلع. أصبحوا هم، وليس شعرهم فقط، هدف القراء. رأينا هذا ولم نزل نراه في شعراء ليسوا تافهين أو عالة على الشعر، ليسوا كذلك دائما على الأقل. بل الحقيقة أنهم في أغلب الحالات شعراء أصلاء، وصناع مهرة. رأينا ولم نزل نرى من الشعراء من لا يكونون باعة تدفعهم الأكتاف، وإنما نجوم ترفعهم الأكتاف. فهل في الوصف الوظيفي للشاعر ما يفسر هذا؟
لا أعرف. ربما أفضل إجابة هي أن كل شاعر من هؤلاء حالة تستحق الدرس والفهم وحدها. ولكن يخطر لي أن الموت، الموت نفسه، أداة من أدوات الشعر، ولا أقول من أدوات الشاعر.
قد ينعزل شاعر ليخدم فيله الأبيض، وقد يضع شاعر هودجا من حرير على ظهر فيله ويمتطيه متبخترا في حدائق القصور. لكن في الحالتين، وفي جميع الحالات، يلعب الموت لصالح الجميع.
يتدخل الموت في النهاية، ليختل توازن كرسي هنا، ويفرغ من طاووسه عرش هناك. وقليلا قليلا، على مدار السنين والقرون، يمحو الموت ما يشاء من شعر الشعراء ويثبت. ومثلما لم يبق في وثيقة بطن الكعبة الشهيرة إلا "بسمك اللهم"، تشحب في ديوان المتنبي أغلب قصائده، تأفل الأبيات التي جوزيت ذات يوم بالذهب والضِياع، وتتألق أبيات لعلها بدت هامشية شاحبة في زمانها الأول. تدب دماء الحياة في قصائد المستشفى الممتقعة، وتذبل قصائد الصراخ والفروسية وتقريع الناس، فلا يكاد يبقى من أمل دنقل مثل أوراق الغرفة 8. حدث هذا كثيرا، كثيرا. ويحدث. حدث مع المدَّاحين والهجَّائين. مع خدم الأيديولوجيات وخصومها. حدث مع بريخت، وحدث مع باوند. ويحدث.
خطر لي أن الموت حليف الشاعر، لأنه ربما العنصر الوحيد من عناصر الوجود الذي لا يستخف به. خطر لي أن البائع الذي يظهر في الإسكندرية القديمة، أو في ميدان التحرير، ليس الشاعر، وأن من يسرح بعربته في حينا صباح مساء هو الشعر، الشعر نفسه، الكنز الذي يحرسه الموت، عبر القرون، وتنبذه الحياة.
***
يسأل عماد أبو صالح:
كيف أمكنه أن يعيش
كل هذه السنين؟
كيف لم تتلف بضاعته،
رغم مرور كل هذا الزمن؟
أظن أنني أعرف إجابة، وأعول عليها.
***