ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الجمعة، 5 فبراير 2016

ميروسلاف هولوب ... لئن مددت يدك إليَّ

 لئن مددت يدك إليَّ
Miroslav Holub


ولد الشاعر والعالم التشيكي ميروسلاف هولوب سنة 1923، وتوفي في 1998. اشتغل بالعلم، وكتب الشعر ـ على حد قوله ـ من باب التسلية. وفي حوار شهير معه قال إن اتحاد الكتاب التشيكيين عرض عليه مثل راتبه لكي يتفرّغ عامين لكتابة الشعر لكنه رفض لأنه يحب العلم. وقال :"وأنا على أية حال أخشى أنني لو توافر لي كل ما في العالم من وقت لكي أكتب القصائد أن لا أكتب أي شيء على الإطلاق".
والحق أن القارئ لكثير من قصائده يشعر أنها خطرت له وهو في غمار أبحاثه. أو أن إلهة الشعر عنده لم تكن فوق جبل الأولمب، بل حبيسة قنينة مغلقة في معمله.
إليكم فيما يلي قصيدة لميروسلاف هولوب، ترجمت من الألمانية إلى الإنجليزية بقلم: جيرمين دروجنبرودت.
***
يد
مددنا يدا إلى العشب ـ
فكان قمح.
مددنا يدا إلى النار ـ
فكان صاروخ.
وفي بطء،
وفي حذر،
مددنا يدا إلى البشر
إلى حفنة
من البشر.
***
علينا أن نعرف في أي عام بالضبط كتبت هذه القصيدة، في لغتها الأصلية، وأن نستعين بفريق من الباحثين المهرة فيستعرضوا لحسابنا الصفحات العلمية في الصحافة الألمانية في الفترة السابقة على كتابة القصيدة، عسانا نعرف بالضبط الأبحاث العلمية التي كانوا يجرونها آنذاك على البشر، فنعرف الوحش الذي سوف تتمخض عنه هذه الأبحاث إن لم تكن تمخضت عنه بالفعل.
وربما لا ينبغي أن نقصر بحثنا على الصحافة العلمية الألمانية، ربما نوسع الدائرة إلى المجلات العلمية أينما تكون، فقد يكون هولوب اطلع على بحث ما في مجلة تصدر في أي مكان في العالم.
ولعلنا نحتاج بجانب الباحثين المهرة إلى بعض من رجال المخابرات المتخصصين في كشف المستور، فكم من التجارب والأبحاث العلمية يجري في الظلام لا نعلم عنه شيئا ولا يصلنا من نتائجه إلا ما يحدث أن تلقيه الطائرات كلما نشبت حرب.
هذا لو أننا تعاملنا مع القصيدة باعتبارها بلاغا من مخبر سري ينقل إلينا خبر تجارب تجرى في الخفاء على البشر، وأن النتيجة ـ فيما نستشعر ـ لن تكون طيبة.
ولكنها قصيدة. بل إنها قصيدة يمكن أن نقرأها مقلوبة ونستمتع كثيرا. يمكننا فعلا النظر إلى حقول القمح إذ تتراص فيها العيدان في انتظام مقيت، لا يكاد بعضها يطول عن بعض، ولا يجرؤ أحدها أن يميل حتى مع الريح. بوسعنا أن ننظر إليها، وأن نحذف التدخل البشري من المشهد، أي نستبعد اليد التي امتدت قبل آلاف السنين لتروض العشب محيلة إياه سلعة تباع وتشترى وتخضعه خضوعنا نحن لقوانين لا علاقة له بها وتظهر صوره في النشرات الاقتصادية سهما على شاشات أسواق المال. بوسعنا أن نرى القمح هذا وقد عاد مجرد نبتة من جملة النباتات، حرة تنمو حيث تشاء، تثمر أو لا تثمر، تميل مع الريح أو تبقى قائمة في انتظار آلة لا ترحم.
نعم، هي قصيدة، وبوسعنا تماما أن نجد طريقة للاستمتاع بها. حتى لو خالفنا غايتها الواضحة، بل وإن قرأناها بعكس طريقة كتابتها.
بوسعنا طبعا أن نمد يدا إلى هذه القصيدة، فإذا بها قصيدتنا نحن لا قصيدة هولوب نفسه. وهذا ما يفعله البشر عادة، ومنذ فجر التاريخ. يغيرون على ما ليس ملكا لهم، وهذا، إن نحن أنصفنا مع أنفسنا، هو الذي أقام حضارتنا بكل ما فيها من خيرات وشرور.
نعم، يدنا امتدت إلى العشب فجعلت منه قمحا. وهذا لا يمكن أن يعد شرا. ويدنا امتدت إلى النار حتى جعلت منها صاروخا. وهذا لا يمكن أن يعد، في أغلب الحالات، إلا شرا، مهما قيل عن الدفاع عن النفس، فاللغة أيضا مطيتنا نحن البشر نسوقها حيث نشاء. ونعم، يدنا امتدت إلى البشر، فما الذي سوف ينتج؟
الحقيقة أن السؤال خطأ. الحقيقة أن انتظارنا للإجابة وهم. لقد أجيب السؤال. وأجيب مرارا. وانظروا إلى المسخ فرانكنشتاين مثلا، تجدوا إجابة. أو انظروا إلى طفل صغير، يولد لأبويه بريئا براءة ندى الفجر، ثم انظروا ما الذي يصير منه بعدما تمتد إليه يد أبويه يعلمانه ويربيانه، ويد المدرسة تلقنه وتحشوه، ويد الإعلام توجهه وتعيد برمجته، انظروا إلينا، نمد أيدينا ليل نهار إلى بعضنا البعض، جاعلين من أنفسنا بشرا أكثر وحشية، أو بشرا أكثر رقة، جاعلين من كل واحد مزيجا من كل الناس، شهادة دامغة على مجتمعه وعصره.
ولكن القصيدة تكلمنا لا عن البشر، بل عن حفنة منهم. القصيدة تحذرنا من شيء لا تصرح به، من يد تمتد إلى حفنة من البشر، هذا يعني القلة، يعني الانتقاء، يعني التعمد. وربما يكون علينا أن نتوجس من النتيجة. وربما هذا ما تريده القصيدة منا. نعم، لنا مطلق الحرية أن نترك يد الشاعر تمتد فينا فتخلق منا حفنة من المذعورين مما لا يعلمون، أو نرد عنا هذه اليد، أو نمد يدنا إليها مثلما تمد هي يدها. ونحن أولا وأخيرا وفي كل ثقافات الدنيا مدربون جيدا على التصافح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق