ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 11 فبراير 2016

قنسطنطين كافافي ... بلا مبالاة

بلا مبالاة

C. P. Cavafy

ولد الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافي لأبوين يونانيين في الإسكندرية المصرية عام 1863. قضى في الإسكندرية معظم حياته، ينشر قصائده في طبعات محدودة، يوزعها على المقربين من أصحابه محتفظا لنفسه بأكثر من ثلث إنتاجه، لا سيما ما يتصل من هذا الإنتاج بموضوعات أخلاقية ـ أو غير أخلاقية إن شئتم ـ ربما كان من شأنها أن تؤلب عليه العامة في ذلك الوقت.
صدرت مجموعة قصائده الأولى في عام 1935 ـ أي بعد موته بعامين. غير أن صديقه الكاتب إي إم فورستر أرسل بعض قصائده في حياته إلى بعض كبار الشعراء الحداثيين في ذلك الوقت من أمثل دي إتش لورنس، وتي إس إليوت، والأخير نشر له قصيدته الشهيرة "إيثاكا" في جريدة كان يديرها في ذلك الوقت.
يعد كافافي واحدا من أهم الشعراء اليونانيين في القرن العشرين وواحدا من أهم الشعراء عموما في تاريخ الإنسانية.
والقصيدة التالية ترجمت إلى الإنجليزية بقلم الشاعرة المترجمة الناقدة آليكَاي بارنِسْتون
***
مرثية

ها هي العينُ غاب عنها الضياءُ
وغابت عن الوجه بسمتُه الشاحبة،
ولكنِ النهارُ لم يُمسِ مظلما بعدُ
والناس لا يزالون في الشوارع يمشون
ويضحكون في جذل.
ما أروع سُنَّة العالم في الأشياء.
باسم هذه السُنَّةِ قد أختفي عن القطيع
فلا يكترث لهذا أحد.
إنه عالم لا يحدث فيه شيء
ليس سوى الأشياء المهمة التي
هي دائما غارقةٌ في اللامبالاة.
***
للشاعرة الأمريكية نِنْ آندروز قصيدة نثرية حوارية عنوانها "نيزك". يدور فيها حوار بين امرأة وحبيبها، يقول الرجل إن نيزكا ضخما سوف يضرب الأرض في عام 2035، فتأسى المرأة لأن الحياة عندئذ سوف تنتهي، فيقول لها إن الحياة لن تنتهي، ولكن حياة البشر هي التي ستنتهي، وكذلك كوكبهم فقط. فتعترض قائلة إن الحياة لا تتحقق إلى من خلال إدراك البشر لوجود هذه الحياة، ومن ثم فعندما يفنى القادرون على الوعي بالكون، فأي وجود حينئذ يكون له؟ ويمضي بينهما الحوار إلى أن تتهمه بأنه "عميل للحكومة" مكلَّف بأن يشعرها بعدم أهميتها كإنسان. وتنتهي قصيدة آندروز بإذعان الرجل - شأن كل الرجال - لنزق المرأة وإقراره بأن الحياة ستنتهي بانتهاء البشر.
المشكلة أن الإنسان بالفعل ليس مركز الكون، والأرض ليست مركز الكون، بل إن الشمس التي ندور حولها هي نفسها ليست مركز الكون. لقد أثبت العلم هذا منذ قرون ولم يعد من مجال للمماحكة. وتغيرت الفلسفة، وأصبحت العدمية والعبثية اتجاهات كبرى في المنجز الفكري البشري. ولكن الإنسان لا يزال ينظر بحزن رومانتيكي - ربما يكون ساذجا - إلى عدم اكتراث العالم برحيل إنسان. لقد جمحت الخيول في مسرحية ماكبث عند مقتل الملك، وهبت العاصفة الأفضل بين جميع عواصف وليم شكسبير عندما أنكرت الملكَ لير ابنتاه. ولكن الضوء يشحب في عيني بطل قصيدة كافافي، وتغيب البسمة الشاحبة عن وجهه، ويبقى النهار، وتبقى الشمس ساطعة، ويبقى الناس يضحكون، برغم أهمية ما يحدث. برغم أن إنسانا يموت، برغم أن جسدا ينسحب من الحياة، برغم أن شيئا مهما يجري، ولكنه شيء يجري طوال الوقت، طوال الوقت ثمة من يموت، طوال الوقت هنالك هذا الحدث المهم الذي يغرق في اللامبالاة شأن كل الأحداث المهمة كما يقول كافافي، والأحداث غير المهمة أيضا.
وما أروع سنة العالم في الأشياء. ذلك رأي كفافي. ليس الرجل معترضا كما ينبغي لشاعر ـ في نظر الكثيرين ـ على هذا الناموس. ليس مستاء من بقاء العالم على غفلته بموت من فيه. لا يطالب الرجل بجنازة عالمية لكل فقيد. لا يريد الحياة أن تتحول إلى مندبة دائمة. لأنه، ببساطة، ليس منحازا للموت لدرجة أن يطالب الحياة بالتوقف لحظات من أجله، لا يتصور أن يدعو الحياة إلى ما يجعلها فعليا موتا قبل الموت.
ثمة ما يدعو للبهجة، حقا، في معرفة كل واحد فينا أن بوسعه الانسحاب دونما جلبة أو لفت مزعج للأنظار. أو ربما هي عزاء لا بهجة. عزاء تجده في رخصة لك بأن تغادر الحفل، مبتسما، هادئا، تترك مقعدك، تنتهز انشغال الجميع بالعرض المبهر، وتخرج من أقرب باب، غير ناظر وراءك، إلى مائدة في ذلك الحفل كنت تجلس إليها، برفقة قليلين، لا بد أن منهم من سيستوحش انسحابك، بل إن بعضهم قد يلومك عليه، لكنك سبق أن كنت هناك إذ انسحب آخرون وتعرف: عما قريب يأنس الباقون بعضهم ببعض، وينسون، وإذا بالباب الذي خرجت منه في هدوء، يكتمل انغلاقه في حسم، ثم لا صوت.

هناك تعليق واحد:

  1. صباح الخير ايها المترجم المبدع والناقد القدير احمد شافعى ، سلمت وسلم يراعك

    ردحذف