ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 18 فبراير 2016

جيمس تيت ... سترة الشتاء والصيف

سترة الشتاء والصيف
james tate
ولد الشاعر الأمريكي جيمس تيت عام 1943. أصدر نحو أربعة عشر ديوانا. نال عنها الكثير من الجوائز المرموقة ومنها جائزتا بوليتزر ووليم كارلوس وليمز عام 1992، والجائزة الوطنية للكتاب عام 1994، وجائزة تانينج من أكاديمية الشعراء الأمريكيين عام 1995. توفي جيمس تيت في عام 2015.
***
فتاة صماء تلعب
هنا ذات يوم، رأيت فتاة صماء تلعب في الحقل، ولأنني لم أدر كيف أدنو إليها دون أن أفزعها، وكيف أفسر سبب وجودي، فإني اختفيت. تقززت من نفسي كمن اغتصب طفلة، أنا الرجل الراشد راقد على بطني في الحقل أشاهد فتاة صماء تلعب. تلوثت سترتي من العشب وتأخرت ساعة عن العشاء. اضطررت  أن أتخلص من سترتي لمَّا لم أجد تفسيرا منطقيا أقدمه لزوجتي. سترة بمائة دولار! ولسنا أثرياء، لسنا كذلك على الإطلاق. وهكذا، لم يبق أمامي غير سترتي الصوفية في حر الصيف تتشبع عرقا بحلول الظهر من كل يوم. صرت عارا على الشركة كلها: فليس من شيم الموظف المحترم أن يباهي بفقره. وبعد أسابيع عديدة من التوتر المعيق، استدعاني رئيسي إلى مكتبه. وبدلا من أن أذل نفسي بإطلاعه على الحقيقة قلت له إنني سألبس أي سترة حقيرة تعجبني، ولو سترة فارس معدنية إن شئت هذا. كانت أول مرة أتحدى سلطته. والأخيرة. طُردت. أُعطِيت مستحقاتي. وفي طريقي إلى البيت فكرت، سأقول لها الحقيقة، سأقولها، لم لا؟ أخبرها بالحقيقة البسيطة، وسوف تحبني. يا للقصة المؤثرة. لا أطيل عليكم، لم أقل الحقيقة. لا أعرف ماذا جرى، أظنني فقدت شجاعتي. قلت لها إنني ارتكبت غلطة كلفت الشركة عدة آلاف من الدولارات وأنهم لم يكتفوا بطردي من العمل، بل صرت بصورة ما مرغما أن أجد نقودا لأعوضهم عن الخسارة. بكت، وضربتني، واتهمتني بكل رذيلة، بداية من المكر والخبث وانتهاء بالعِنَّة. ساعدتها في حزم حقائبها وأوصلتها إلى محطة الأتوبيس. كان أوان الشرح قد فات. فما كانت لتصدقني. ما أشد برودة البيت من غيرها. ما أعمق صمته. كل طبق أوقعته كان يشبه نزع قطعة لحم عن حيوان حي. وحين تكسرت جميعا، انزويت في ركن وحاولت أن أتخيل ما الذي سأقوله لها، فتاة الحقل الصماء. ما الذي كان بوسعي أن أقوله؟ فلا صوت يمكن أن يصل إليها. وكاللص أمشي في العتمة المخملية، أعلق بالمسامير لافتاتي الصغيرة على الشجرة والسياج ولوحة الإعلانات. فتاة صماء تلعب. يا لتأثيرها. اسمعوا. في نعالهم ومعاطفهم المنزلية يترك المزيد من الرجال كل ليلة زوجاتهم النائمات: تك تك تك فتاة صماء تلعب. لا أحد يقول شيئا إلا المساميرُ ولوافتها المدهشة.
***
في فيلم "العدالة للجميع" وهو فيلم أمريكي من بطولة آل باتشينو، كان لباتشينو صديقٌ محامٍ أتى إليه في ليلة منهارا وكلمه عن مهارته كمحام، وكيف أنه استطاع في قضية شهيرة أن يبرئ قاتلا برغم أنه كان واثقا أنه مدان غير بريء. قال الصديق لباتشينو إن هذا القاتل الذي برأه قتل ضحية أخرى. اعتبر المحامي نفسه مسئولا عن مقتل هذه الضحية الثانية، وأصابه اكتئاب، فحلق شعر رأسه بالموسى. ورفض القضاة مثوله أمامهم بهذه الهيئة غير المعتادة لمحام مرموق. تم إيقافه لفترة عن العمل. وفي تلك الأثناء، يتعرض باتشينو، وهو أيضا محام، لمشكلة مماثلة تصيبه هو الآخر بالاكتئاب وتدفعه إلى القيام بسلوك عنيف في المحكمة، وهكذا نراه في نهاية الفيلم جالسا على باب المحكمة بعدما طرده القاضي من القاعة. وإذ ذاك يظهر المحامي الصديق داخلا المحكمة وقد نما شعره بغزارة. يلتفت الصديق إلى باتشينو، غير مندهش من جلوسه على ذلك النحو، ويحييه، لا برفع قبعته كما يفعل الغربيون، بل برفع شعره المستعار.
في الفيلم وفي القصيدة، يأبى المجتمع، بلا مجالٍ للمساومة، أي خروج عن المألوف. فليس لمحام في الفيلم أن يحلق شعر رأسه، وليس لرجل أن يرتدي بذلة الشتاء في فصل الصيف.
غير أن القصيدة تزيد فتعطينا ملمحا آخر. فليس الموظف المفصول هو وحده الذي شذ عن المألوف. وليس خروج المحامي على المجتمع في شيء أو لحظة ينفي أنه في شيء آخر أو لحظة أخرى يمثل هذا المجتمع ويكونه.
فهناك شخص آخر. فتاة صماء تلعب في الحقل. فتصبح مشهدا يستحق من موظف محترم أن يجثو على بطنه ويضحي بسترة وإن كان ثمنها مائة دولار، ليشاهدها. وبعد أن يخسر الوظيفة والبيت والأطباق من جراء مشاهدته، يعلن للجميع أن فتاة صماء تلعب. فكأنه بإعلانه يفضح شذوذا.

هل تريد القصيدة أن تقول لنا إن السبيل الوحيد إلى اللعب في هذا العالم، أو الاستمتاع في هذا العالم، أو الحرية فيه، هو أن نحتمي أولا بالصمم؟ وهل تريد القصيدة أن تقول لنا إننا حين نثور على قواعد هذا العالم، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلا من أجل حريتنا، وليس لأجل أن يصفق لنا أحد، لأن الشخص الوحيد الذي نريد منه هذا التصفيق، هو على الأرجح شخص أصم لن نستطيع إلى إبلاغه سبيلا؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق