ما لم ترد إشارة إلى غير ذلك، فجميع ما في هذه المدونة من ترجمة أو كتابة هو لصاحب المدونة، أحمد شافعي، ولا يجب التعامل مع أي مادة هنا بما يتجاوز القراءة

الخميس، 19 نوفمبر 2015

فقه البلاد المتخيَّلة

فقه البلاد المتخيَّلة

ولد لاري باتريك ليفيس في فريسنو بولاية كاليفورنيا الأمريكية في الثلاثين من سبتمبر عام 1946. كان والده من زارعي العنب، وفي شبابه كان باتريك يسوق جرَّارا، ويقلِّم الكروم، ويقطف العنب في سيلما بولاية كاليفورنيا، حصل على درجة البكالريوس عام 1968 من كلية ولاية فرسنو (والتي تحمل اليوم اسم جامعة ولاية كاليفورنيا بـ فرسنو)، وحصل على درجة الماجستير من جامعة سيراكيوز عام 1970، ثم حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أيوا عام 1974.
فاز ديوانه الأول الصادر عام 1972 بعنوان "طاقم الحطام"بجائزة الولايات المتحدة من منتدى الشعر الدولي. وكان ديوانه الثاني "الحياة الأخرى" الصادر عام 1976 ضمن مختارات لامونت الشعرية من أكاديمية الشعراء الأمريكيين. وفي عام 1981 فاز ديوانه "شبح صانع الدمى" بالمسابقة المفتوحة للسلسلة الوطنية للشعر.
قال الناقد الأمريكي روبرت ميزي إن "شعر لاري ليفيس حافل بالمفاجآت، وليست مفاجآته من النوع الممل الذي يسهل التنبؤ به والذي يمكن إعداده من خلال هذه المعادلة أو تلك، ولكنها مفاجآت تنتج عن صدمة منعشة لا تتأتى إلا من أفكار طازجة تأتي من عمل شاعر حقيقي".
كتب الشاعر والناقد توني هوجلاند يقول إن "ليفيس لا يهتم بالمعادِلات الاستعارية بوصفها وسيلةً للوضوح المنطقي، أو الإقناع، أو التركيز، ولكنه يستخدم الصورة وسيلةً للبحث، كنوع من التجريب، كإصبع يشير إلى المجهول". درَّس باتريك ليفيس اللغة الإنجليزية في جامعة ميزوري بين عامي 1972 و1980 كأستاذ مساعد، وأدار برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة أوتاه بين عامي 1980 و1992، وابتداء من ذلك العام وحتى وفاته (1996) كان ليفيس أستاذا للغة الإنجليزية في جامعة فرجينيا كومونوِلث.
توفي باتريك ليفيس بسكتة قلبية عام 1996 عن تسعة وأربعين عاما، وصدر آخر دوواوينه بتحرير الشاعر الكبير فيليب ليفين عام 1997 بعنوان "مرثية".
القصيدة التي نقدمها فيما يلي مأخوذة من ديوانه الثاني "الحياة الأخرى".
***
في بلد
أنا وحبيبتي نخترع بلدا
بوسعنا الآن أن نراه يتشكّل
ونرى كأن عجلاتٍ تدور
في وحلٍ أصفر.
ولكن هناك مشكلة:
لو وضعنا نهرا في البلد
فسيذوب جليده ومن ثم يفيض.
ولو وضعنا النهر على الحدود
فقد بدأت المشاكل.
ولو أغفلنا النهر بالمرة
فلن يكون هناك مخرج.
وهناك دائما سماء على البلد
تنتظر السحاب أو الدخان.
وطيور لا بد أن تطير فيها، كذلك.
وشجر في مساء كل ليلة
يمتلئ بأعين هذه الطيور،
وما تراه أعينُ الطيور
أنَّى لنا نحن أن نمحوه.

ذات يوم كان الجليد ينهمر بغزارة
وكنا كالعادة في الفراش
نشاهد بلدنا:
يومها تصوَّرنا النهر للمرة الأولى
عريضا وأزرق وسريعا.
كان يبدو أننا نقترب
رأينا آثار عجلاتنا تؤدي إليه
وتنحني حتى تختفي خلفنا.
بدا البلد كأنه الأرض التي رحلنا عنها
ببعض دخان معلَّق في البعيد
ولكنني لم أكن واثقا.
كان ثم طيور تتصايح
وقعقعة عجلاتنا
ولحظة كنا ندخل البلد
بدا كأن شخصا ما
يمسُّ برقة كتفينا العاريين
لآخر مرة.
***
ما أكثر من حلموا ببلد غير هذا البلد. دائما هناك هذا البلد الذي يحلم بالرحيل إليه العشاقُ المأزومون، واليائسون من التغيير، والهاربون من أنفسهم أو من سواهم، واللصوص أيضا، أعني كبار اللصوص على الأقل، الحاصلين على القروض الكبيرة بلا ضمانات كافية، والطغاة المخلوعين، والهاربين من تنفيذ الأحكام. ثمة بلد يحاول أن يهرب إليه الفقراء فيبتلعهم البحر، وكأنما الغرق وحده هو الذي حال دون وصولهم إليه.
ودائما هناك هذا البلد الطوباوي الذي تتحقّق فيه الأحلام، الذي ليس بيننا وإياه إلا أن نغمض أعينا وندرِّب خيالنا. لا ينبغي هنا أن نصادف من العقبات ما لا يمكن التغلب عليه. لا وقوف على أبواب السفارات، ولا خلع أحذية في المطارات، ولا خوفا من المجهول. بعينين مغمضتين فقط نرى ما نريد.
غير أن هذه القصيدة تهدِّد هذا البلد. وليته تهديد واضح، إذن لهان الرعب.
قرأت مرة عن أقصر قصة رعب في العالم، أحكيها لكم من الذاكرة: "جلس آخر البشر في غرفته، وسمع طرقة على الباب". هذه هي القصة تقريبا. إنسان بعد نهاية العالم، في غرفة، وطرقة على الباب. هذه قصة رعب فعلا، بل لعلها قصة الرعب الوحيدة، فالمخيف هنا هو جذر المخيف الحقيقيُّ الذي نبتت منه الميتافيزيقا كلها، هو المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته إلا باختراعه، بفتح باب لا تفتحه القصة، فيبقى القارئ يفتحه إلى الأبد.
في هذه القصيدة أيضا لمسة، تربيتة على كتفي عاريين يعبران إلى بلد خيالي. وكل شيء محتمل، إلا أن تصادف في خيالك الذي تخترعه لنفسك شيئا لم تخترعه بنفسك، أو شخصا لم تضعه بنفسك ليمنحك تربيتة وأنت خارج من البلد.
***
ولا بد لكل بلد من نهر. هذه معلومة جديدة. إضافة شعرية إلى الجغرافيا، ونواميس الطبيعة. فلو أغفلنا النهر في بلد، لن يكون لنا منه مخرج. وهذه إضافة جديدة إلى فقه البلاد المتخيَّلة: لا تتخيل بلدا يستحيل عليك الخروج منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق